جورج سمعان
نجحت سلطنة عمان في السابق. ولا شيء يحول دون نجاحها هذه المرة أيضاً في فتح كوة في الجدار. وكسر الجمود الذي يعتري المفاوضات الخاصة بالملف النووي الإيراني. تعتقد الديبلوماسية العمانية بأن الطرفين الأميركي والإيراني دخلا النفق مدركين أن ثمة مخرجاً في النهاية. نجحت سابقاً في سعيها إلى دفعهما نحو مدخل النفق وتبديد الكثير من أجواء انعدام الثقة التي خيمت لثلاثة عقود بينهما. والتفاهم الذي قام بينهما عشية الحرب على نظام «طالبان» في أفغانستان، ثم على نظام الرئيس صدام حسين، يمكن أن يتكرر في الملف النووي. صحيح أن هذا الملف يختلف تماماً. وأن طهران أفادت من إزاحة قوتين ناصبتاها العداء وقضّتا مضاجعها. لكن الصحيح أيضاً أنها تحتاج اليوم إلى إعادة فتح الأبواب أمام إعادة بناء علاقاتها مع الغرب عموماً. مثلما تحتاج الولايات المتحدة إلى استقرار منطقة الشرق الأوسط لأهداف كثيرة. بينها أمن إسرائيل وإعادة إطلاق التسوية السلمية. وتأمين مناطق النفط وممراته ومضائقه. والمساعدة في الحرب على الإرهاب.
تحتاج إيران إلى علاقات طيبة مع أميركا وأوروبا من أجل إعادة بناء اقتصادها. هي تعرف أن روسيا ليست بديلاً عن علاقاتها بالغرب، بل هي لا تثق بها كثيراً استناداً إلى تجارب الماضي القريب وليس البعيد فحسب. وعلمتها هذه التجارب أن موسكو أدارت لها الظهر مراراً. وقايضت واشنطن وساومت ولا تزال مستعدة للمساومة. وساهمت في إقرار حزم العقوبات التي تبناها مجلس الأمن، فضلاً عن أنها إحدى القوى التي تفاوضها لمنع امتلاكها برنامجاً نووياً عسكرياً. وفوتت الكثير من الوقت في إكمال تعهداتها الخاصة بمفاعل بوشهر. وتراجعت عن صفقات تسليح اعتبرتها طهران حيوية، خصوصاً «إس إس 300». ورضخت لضغوط أميركية وإسرائيلية أيضاً في هذا المجال. وتعرف النخب الدينية الحاكمة في الجمهورية الإسلامية أن غالبية الإيرانيين ترغب في إعادة بناء الجسور مع الولايات المتحدة. أي أن الشارع الإيراني بخلاف الشارع العربي لا يرى إلى نفسه معادياً للأوروبيين والأميركيين معاداة عامة العرب لهم. وهذا ما أتاح ولايتين لمحمد خاتمي. وهذا ما جاء بالرئيس حسن روحاني. وأبعد من كل هذه الاعتبارات تشعر إيران بأن حروبها الخارجية تستنزف قدراتها الاقتصادية والمالية وترسانتها العسكرية، من العراق إلى سورية ولبنان واليمن وحتى غزة. فليس قليلاً أن تتحمل أعباء نفقات السلاح الروسية إلى دمشق. وأن تتكفل بمعظم الفواتير التجارية لسورية، فضلاً عن الرواتب وتقديمات أخرى للميليشيات التي تقاتل في بلاد الشام. وأخيراً وليس آخراً ستواجه مزيداً من المصاعب مع استمرار هبوط أسعار النفط العماد الرئيسي لتمويل موازنتها العامة.
وتحتاج الإدارة الأميركية هي الأخرى إلى اتفاق يضمن عدم قدرة طهران على صنع سلاحها النووي. الخيار العسكري ليس وارداً. ولم يكن وارداً حتى في أيام الرئيس السابق جورج بوش الا،بن على رغم التهويل الذي رافق «حروبه الاستباقية». ولم يأتِ رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي بجديد. أقر بأن «قصف إيران سيؤدي إلى تأخير برنامجها النووي، لكنه لن يقضي عليه». وبالطبع، ليس في قدرة إسرائيل أن تشن مثل هذه الحرب وحيدة، بل تخشى مثل هذه المغامرة غير المضمونة. لا بديل من الاتفاق السياسي إذاً. وهذا ما شدد عليه الرئيس باراك أوباما وهو يعترف بخسارة حزبه أمام الجمهوريين في الانتخابات النصفية الأخيرة. الأولوية في سياسته للسنتين الباقيتين من ولايته الثانية، إبرام اتفاق مع الجمهورية الإسلامية «يحظى بثقة دولية». ولولا هذا الهدف الذي سعى إليه منذ ولايته الأولى لما بعث بأربع رسائل إلى المرشد السيد علي خامنئي. ناهيك عن الرسائل المفتوحة التي وجهها إلى الشعب الإيراني في مناسبات عدة.
عملياً لم يبقَ أمام الرئيس أوباما متسع من الوقت لتحقيق أي تسوية في قضايا الشرق الأوسط. وهي كثيرة ولا حاجة إلى تعداد الإخفاقات التي مني بها. لم يبق أمامه سوى إنجاز وحيد يؤرخ به لولايته وهو إبرام اتفاق مع إيران. مثل هذا الإنجاز سيمحو شيئاً من آثار الصفعة التي تلقاها من خصومه الجمهوريين. والسؤال هل يقدم الآن، أم ينتظر لئلا يفسر هؤلاء خطوته تحدياً لأكثريتهم في مجلسي النواب والشيوخ؟ لا يستطيع إضاعة مزيد من الوقت. يجب أن يتحرك قبل انعقاد الكونغرس مطلع كانون الثاني (يناير) المقبل. وليست هذه عقبة كبيرة، إذ يمكنه أن ينجز الاتفاق من دون العودة إليه كونه ليس معاهدة. أما العقوبات على إيران التي تحتاج إلى تشريع لإلغاء القوانين الخاصة بها، فيمكنه تعليقها ووقف تنفيذها تالياً.
لقاء وزراء الخارجية الأميركي جون كيري والأوروبية كاثرين آشتون والإيراني محمد جواد ظريف في مسقط ينتظر أن ينتهي اليوم بتفاهم على «اتفاق إطار» جديد يسهل نجاح جولة المفاوضات المقبلة قريباً قبل نهاية المهلة في الرابع والعشرين من الجاري وتحقيق اختراق تاريخي. ويمكن عُمان التي تتمتع برصيد لدى كل من واشنطن وطهران، أن تساهم في ردم الهوة بين الطرفين. وهي تعي كما كل المعنيين بالملف النووي أن فشل المفاوضات سيدفع الجمهورية الإسلامية إلى التعجيل في برنامجها النووي العسكري. ولن يكون عليها فعل الكثير لأن ترسانتها الصاروخية باتت جاهزة لاستكمال البنى التي يحتاج إليها هذا البرنامج. وتعي أيضاً أنها لن تكون بعيدة من التداعيات السلبية لأي فشل على الصراع المذهبي المتصاعد في معظم أرجاء المنطقة.
المتفائلون بتحقيق اتفاق بين إيران والدول الكبرى الست، في ضوء لقاءات مسقط، يبشرون بتغييرات جذرية في صورة الشرق الأوسط. لعل في ذلك مبالغة. أي اتفاق سيحدث صدمة وتداعيات على مجمل العلاقات بين دول المنطقة وبينها وبين الدول المؤثرة والفاعلة. سيلجم سباق التسلح ويهدئ مخاوف أطراف وقوى مثلما قد يثير مخاوف أطراف وقوى أخرى. والأهم من ذلك أنه سيفتح ملفات القضايا المشتعلة في العالم العربي، وقد يزيدها اشتعالاً. وقد صرح الوزير كيري بأن الحوار واللقاءات مع المسؤولين الإيرانيين لا تتناول حتى الآن القضايا الإقليمية، وأن ليست هناك مقايضة أو ربط بين كل هذه الملفات. لعل وزير الخارجية لم يجافِ الصواب. فالجانب الوحيد الواضح في استراتيجية إدارته كان ولا يزال السعي إلى إقفال الملف النووي الإيراني. فيما الغموض والارتباك يسودان سياساتها حيال التداعيات التي خلفتها وتخلفها الرياح العاصفة من شمال أفريقيا حتى العراق. ولـــيس في الأفق ما يشي بأنها ستكون قادرة على التعامل مع كل هذه النيران. وليس لديها الوقت الكافي لذلك. ستظل الملفات مفتوحة للإدارة المقبلة.
الرئيس أوباما كان واضحاً في كلمته الأخيرة. فإلى الاتفاق الذي يسعى إليه مع إيران، أكد أنه سيواصل ضرب «الدولة الإسلامية» في العراق وسورية «من دون العمل على حل كل الوضع في سورية». وهو في هذا الجانب كان وفياً لوعده الأول بمواصلة الحرب على الإرهاب. لكنه لن يجازف في رسم الخريطة الجديدة للمنطقة العربية. لم يفعل ذلك منذ أن عصفت بها رياح التغيير. ولن يفعل في أي أزمة أكثر مما فعل في العراق الذي لم يعد وقد لا يعود دولة مركزية. بات لكل مكون عرقي أو مذهبي «دويلته» الخاضعة لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك. وهذه حال ليبيا واليمن. أما سورية التي لن يجد لها حلاً، فلن يكون مصيرها أفضل. حربها الأهلية باتت حروباً أهلية مع قيام «داعش» وتشتت فصائل المعارضة. جل ما قد يبتغيه اليوم هو تجنيب حلب مصير كوباني التي سيظل مستقبلها معلقاً. لن يكون الحسم رهن القوى العسكرية المتصارعة بمقدار ما بات رهن العوامل السياسية الداخلية والخارجية التي تواكب مسرح العمليات. تركيا تريد حصة كبيرة في سورية. وتريد تصفية حسابات إقليمية ودولية فيها. ولا تشكل عين العرب سوى نموذج صغير. لا تريد أنقرة سقوطها بيد «داعش»، لكنها لا تريدها أيضاً في أيدي «حزب الاتحاد التركي» لقربه من «حزب العمال». وصالح مسلم لا يريد مساعدة كبيرة من «البيشمركة» لئلا تتحول المدينة جزءاً من مصالح إقليم كردستان ورئيســـه مسعود بارزاني. ولا يريد عون «الجيش الحر» لئلا يندرج لاحقاً تحت مظـــلة «الائتلاف الوطني». والتحالف الدولي - العربي يحـــاذر من أن ينتهي طرد مقاتلي أبو بكر البغدادي من كوباني بعـــودة جنــــود الرئيـــس بشار الأسد إليها. وقد يتكرر النمـــوذج نفـــسه في حلب قبل أن تنطلق فيها المواجهة الكبرى. لن يكون بمقدور طرف وحيد الإمساك بالمدينة. النظام يمنّي النفس باستـــعادة نصفها الآخر بعون روسي وإيراني خصوصاً. والفصائل المعارضة تتقاتل على أجزاء أخرى. «جبهة النصرة» استعجلت طرد منافسيها من ريف إدلب اســـتعداداً للمعركة المقبلة على عاصـــمة الشمال السوري. ويجزم مراقبون بأنها تنسق مع «الدولة الإسلامية» لتكون لهما في النهاية الكلمة الفصل دون الآخرين، معتدلين أم إسلاميين.
والحال هذه لن يكون أمام الرئيس أوباما سوى ترك الساحة للقوى الفاعلة في المنطقة، وعلى رأسها إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية ومصر، كي تدير شؤون المنطقة. وهو هنا يبقى أميناً لسياسة أعلنها باكراً: إشراك القوى الإقليمية الكبرى في إطفاء الحرائق وإيجاد حلول وتسويات للقضايا والملفات العالقة. الاتفاق مع إيران يطوي صفحة مهمة، لكنه يفتح ملفات المنطقة على مصرعيها. ومن المبكر الحديث عن تحولات جذرية وصورة جديدة للشرق الأوسط. إنه خطوة على طريق الألف ميل. وإذا كان قيام «الدولة الإسلامية» جحيماً يقض مضاجع كل أهل الإقليم، ألا يصلح نقطة انطلاق مشتركة لتلاقي الإرادات والجهود لإعادة ما أفسده صراع المصالح والطوائف والمذاهب والأقليات والأكثريات؟ أم إنه سيكتب عليهم عاجلاً أو آجلاً التعامل مع دولة الخليفة أبو بكر البغدادي؟