ليس سهلاً على الرئيس رجب طيب أردوغان تنفيذ تهديداته. رسم خطاً أحمر حول أعزاز.
ويخشى أن يكون مصير هذا الخط كمثيله الذي رسمه من قبل الرئيس باراك أوباما للنظام السوري. أو يخشى أن يضيع في طيات تهديدات وتحذيرات كثيرة أطلقها الرئيس التركي نفسه منذ اندلاع الأزمة في سورية. لقد لوح، وأركان حزبه، منذ سنوات بأنه لن يسمح بتكرار مأساة حماة. لكن سورية شهدت ولا تزال تشهد عشرات المآسي. لا تملك أنقرة خيارات مفتوحة. صحيح أنها بإسقاطها الطائرة الروسية أيقظت حقيقة غابت عن ذهن الرئيس فلاديمير بوتين، وهي أنه ليس مطلق اليدين، وأن تدخله ليس بلا ثمن.
لكن هذه الحادثة أججت الصراع مع روسيا. وقدمت إليها ذرائع لنهج سياسة تطويق تركيا من البحرين الأسود والمتوسط، ومعاقبتها على استضافة أجزاء من «الدرع الصاروخية» لحلف شمال الأطلسي. ولم يعد أمام أردوغان سوى اللجوء إلى القوة، تنفيذاً لما قاله رئيس حكومته أحمد داود أوغلو عندما حذر برد «حازم للغاية» على الكرملين... وإلا تحول إلى نمر من ورق!
ضاقت الخيارات أمام تركيا لأنها لا ترغب في أن تكون ما كانته باكستان وانخراطها في المستنقع الأفغاني.
لا تريد أن تقع في فخ استدراجها إلى الساحة السورية، ما دام أنها لا تملك تصوراً لمآلات هذا التدخل. ولأن عضويتها في حلف شمال الأطلسي لا تسمح لها بالتفرد في مثل هذا القرار. لذلك تضاربت مواقفها من التدخل البري. فهي تدرك أنها تحتاج إلى ضوء أخضر من حلف «الناتو» ومن واشنطن، وكلاهما لا يملك سوى دعوتها وموسكو إلى الحوار.
وواضح أن الرئيس باراك أوباما لا يريد مواجهة مع روسيا، مثلما لا يرغب في أي نزاع مع إيران. لا يبقى أمام الرئيس أردوغان المحظور عليه أيضاً مد المعارضة بصواريخ أرض جو وعتاد فعال يمكن أن يعيد شيئاً من التوازن ميدانياً، سوى تصعيد قصفه مناطق «وحدات حماية الشعب» الكردية.
والدفع بمزيد من المقاتلين إلى الشمال السوري لوقف اندفاعة الكرد. ومواصلة التلويح بتدخل بري مع حلفائه العرب. والتهديد بإقفال مطار انجرليك أمام طائرات التحالف الدولي. وتسهيل عبور آلاف النازحين إلى أوروبا براً وبحراً لتعميق أزمتها، وتهديد أمنها واستقرارها وأركان وحدتها.
الواقع أن ما يفاقم الاستعصاء في الأزمة أن الرئيسين بوتين وأردوغان يتصارعان في معركة مصيرية. سيد الكرملين اندفع إلى سورية ساحةً لإعادة توكيد دور روسيا قوة دولية نداً لأميركا لا غنى عنها في إدارة شؤون العالم. وبوابةً إلى حضور فاعل في الشرق الأوسط في التسويات السياسية ومشاريع الطاقة. إذ لا يغيب عن ذهنه طموح تركيا واستراتيجيتها لاستقبال أنابيب الغاز والنفط من آسيا الوسطى وإيران والعراق وقطر إلى أوروبا. وفي سعيه إلى فك الحصار الاقتصادي الغربي، توقع أن يثمر تدخله تحت شعار محاربة الإرهاب حواراً مع أوروبا المذعورة من «داعش» وجيش اللاجئين. توقع إبرام صفقة شاملة. راهن على إسقاط العقوبات والسكوت على ضمه القرم. ولكن لا أوروبا ولا الولايات المتحدة أبدت أي استعداد لمثل هذه الصفقة. لذلك ليس أمام موسكو في هذه المرحلة سوى مواصلة خيار الحسم العسكري لكسر الفصائل المعارضة بما يسهل عليها فرض الحل السياسي الذي ترتأيه. ولا أمل في هدنة قريبة قبل أن تضمن إقفال الحدود مع تركيا. وقبل أن تضمن مستقبل «سورية المفيدة» إذا كانت الصفقة الشاملة بعيدة المنال. ولا بأس في أن تترك أمر قتال «الدولة الإسلامية» للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. فالثابت أن سيد الكرملين يدرك تبعات مواصلة الحرب على أوضاعه الاقتصادية وعلى علاقاته بالعالم العربي والإسلامي عموماً. ويدرك أيضاً أن الجيش السوري لا يملك قوات وقدرات تسمح له بالمحافظة على المواقع التي استردها في الفترة الأخيرة بمساعدة حلفائه الخارجيين. لذلك انتقد سفيره إلى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين تصريحات الرئيس بشار الأسد بأنه يريد استعادة السيطرة على الأراضي السورية كاملة.
في المقابل، لا يملك الرئيس أردوغان سوى خيار وحيد هو تأكيد قدرة بلاده على حماية أمنها القومي ومصالحها. لا يمكنه المجازفة بخسارة حضورها في سورية. بذل الكثير في السنوات الماضية ليشرع بوابات حدودها الجنوبية مدخلاً إلى بلاد الشام ودول المنطقة حتى شبه الجزيرة وأبعد منها. جهد لتقديم تركيا إلى أوروبا قوة لا يستهان بها في الشرق الأوسط لعلها تسهل فتح أبوابها أمام انضمامها إلى الاتحاد. ولا يمكنه من جهة أخرى أن يتهاون حيال تقدم الكرد وتوسيع مناطق إدارتهم الذاتية في سورية ورسم حدود «الإقليم الكردي»، معولين على دعم روسي وأميركي. يستحيل عليه القبول بقيام كيان كردي على حدوده الجنوبية وتحويله ساحة صراع إضافية مع حزب العمال الكردستاني. فضلاً عن أن مثل هذا الكيان سيعزز شعور الكرد في ديار بكر بوجوب بناء كيان مماثل لما في العراق وسورية. الأمر الذي يعد تهديداً مصيرياً لوحدة تركيا.
في ضوء هذا الاستعصاء، لا يبدو أن وقف النار أو اعتماد هدنة أمر قريب المنال. فكيف الحديث عن مفاوضات لإرساء تسوية سياسية لا يريدها أحد في المدى المنظور! لن تستكين تركيا في الدفاع عن أمنها ودورها في سورية. وهو ما يشكل مصدر قلق وإزعاج لروسيا وإيران اللتين لا ترغبان في مزيد من المشاركين في رسم صورة بلاد الشام. يبقى أن المهم في هذا الصراع المتصاعد بين موسكو وأنقرة أنه يشغل الجميع عن محاربة «الدولة الإسلامية». فلا روسيا مستعدة للذهاب أبعد من ضمان مصالحها في الساحل السوري. ولا إيران قادرة على خوض معركة حاسمة مع «دولة أبي بكر البغدادي»، لا في العراق ولا في سورية. أما «وحدات حماية الشعب» التي أفادت وتفيد من توسيع مناطق إدارتها الذاتية ورسم حدود «الإقليم الكردي»، معولة على الدعم الروسي والأميركي، فلن تكون أكثر حماسة من «البيشمركة» في خوض قتال مكلف لتحرير أراض «لا تعنيها» بالنيابة عن الآخرين، عرباً وغير عرب. وأنقرة تصب جل اهتمامها على مواجهة هذا التوسع. لم تعد إطاحة الرئيس بشار الأسد في سلم أولوياتها، مرحلياً على الأقل. والمملكة العربية السعودية التي تدرك خطورة خسارة بلاد الشام بعد العراق لمصلحة إيران، تلوح بتدخل بري لمحاربة الإرهاب، ولكن في إطار التحالف الدولي... لعلها تحرج إدارة الرئيس أوباما لتعديل مواقفها من الأحداث.
الخيارات القليلة التي تضيق أمام خصوم النظام السوري لا تقابلها خيارات مفتوحة أمام دمشق وحلفائها في الداخل والخارج. يستحيل على النظام الذي لم يبق منه شيء أن يستعيد حكم البلاد والعباد. القرار في يد روسيا وإيران. وما يهمهما أولاً وأخيراً الحفاظ على مصالحهما أياً كان مصير البلاد ووحدتها. لم يعد صالحاً الحديث عن موقع النظام في خريطة الصراع الدائر في سورية وعليها. حتى القوات النظامية المنتشية بالانتصارات الأخيرة يدرك كبار قادتها أن لا قدرة لهم، بل لا عديد في قواتهم، للإمساك بالمناطق المستعادة. فضلاً عما تعانيه هذه المناطق من أوضاع اقتصادية تزداد سوءاً ليستفحل دور «الشبيحة» والفلتان الأمني. أما رهان موسكو على دفع مزيد من اللاجئين إلى أوروبا لإرغامها على الجلوس إلى الطاولة فسلاح ذو حدين. هو سلاح بيد تركيا أيضاً. إن هجرات جديدة نتيجة الحرب الطاحنة في محيط حلب وإدلب ستهدد بالتأكيد أمن القارة العجوز ووحدتها. فهل تسمح واشنطن بمثل هذه الفوضى التي ستعم الجناح الآخر والأساس في «الناتو»؟ هل ستضمن عدم انتقال عناصر إرهابية إلى دول الاتحاد مع موجات النازحين؟ وهل سيظل الرأي العام يشيح بنظره إذا عادت مراكب الموت تلفظ الفارين من جحيم الحرب على الشواطئ هنا وهناك؟
لا شك في أن تركيا والعرب الآخرين ليسوا وحدهم من يدفع ثمن هذا الانكفاء الأميركي. أوروبا بدأت تدفع مثل هذا الثمن. وقد تتفاقم أزمتها إذا واصلت روسيا اندفاعها نحو الحدود التركية، وأحكمت حصارها لمدينة حلب وما ستخلفه من أزمة إنسانية وهجرة واسعة. لذلك نادت المستشارة الألمانية بقيام منطقة حظر جوي، على غرار ما تطالب به أنقرة. حتى اللعبة السياسية في الداخل الأميركي بات خيار إدارة أوباما الصامت الساكت يقلقها. إذ لا يمكن تحاشي تبعات الأزمة السورية في قلب أوروبا. وإفراغ سورية من أهلها ودفعهم نحو مصير مجهول في البحر أو إلى أحضان العواصم الغربية سيولّدان أزمة أخلاقية وسياسية ضاغطة على خيارات الحكومات الأوروبية وعلى واشنطن أيضاً. لن يكون مثل هذا التطور سلاحاً بيد بوتين. إنه سلاح سيكون له من حديه نصيب... فضلاً عما يعنيه المزيد من التدخل الإقليمي والدولي في سورية، وما يخلفه من عوائق وعقبات أمام سياسة موسكو. جميع اللاعبين سيجدون أن لا مفر من تغيير قواعد اللعبة مجدداً، وإلا بقي الأسد والبغدادي الرابحين الوحيدين! فهل هذا هدف المتصارعين على سورية؟