بقلم : غسان شربل
تدفع بلداننا غالياً فاتورة الإقامة في عهدة القساة. ومن عادة المستبد أن يقتل بلاده مرتين. الأولى حين يحتكر القرار والبلاد والعباد ويتفرغ لتلميع صورته وتشييد نصبه في التاريخ، والأخرى حين يغادر أو يُقتلع ويترك البلاد عاريةً من أي مؤسسة جدية أو جهاز لإطفاء الحرائق. وتدفع بلداننا أيضاً ثمن غياب المؤسسات أو الإقامة في ظل فشل يتمادى ويتمدد ويرفض أن يغادر متسلحاً باعتبارات عرقية أو طائفية أو مذهبية.
لم تعد تنطلي على أحد رواية أن ما حل ببلداننا هو من صنع المؤامرات الخارجية وحدها. السبب الأول للمأساة هو الهشاشة الداخلية والسياسات المتحيزة والمستبدة التي تجهّز حقول البارود للاشتعال عند أول فرصة. لا تستطيع المؤامرة الخارجية إطلاق حرب أهلية في بلد لم يوفر صاحب القرار فيه ما يلزم من النار والكبريت. ثمة قاتل أخطر من الكيد الخارجي أو كمائن سفير أو هياج مغردين على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا القاتل الأخطر هو الفشل. أقصد الفشل في الارتقاء إلى مفهوم الدولة بمعناه العصري ومستلزماته وشروطه وما يرتبه على الفرد والمسؤول. وفي غياب المؤسسات التي تراقب وتحاسب وتصحح يتمكن الفشل من الاستفحال وتتحول السلطة مجموعة من الجزر المحكومة بشهيات التسلط والكسب والعنف الأعمى من دون أي مراعاة لقيمة أو حق.
تذكرت ما رواه لي في باريس علي عبد السلام التريكي الذي تولى في عهد معمر القذافي حقيبة الخارجية وسفارة بلاده لدى الأمم المتحدة فضلاً عن الإقامة المديدة في شؤون أفريقيا وشجونها.
كان التريكي يتحدث عن مذبحة الطائرة الليبية في 1992 والتي قُتل فيها 157 شخصاً حين قال إن «الاعتقاد السائد هو أن الأجهزة الليبية أسقطتها عمداً وحمّلت الأميركيين في حينها المسؤولية بذريعة أنهم لم يزوّدوا ليبيا قطع الغيار. كانت العملية مدبَّرة والطيار كان عديلي علي الفقي وقُتل فيها».
وأضاف أن «الطائرة أُسقطت بصاروخ بعدما كانت زُرعت بمتفجرات لم تنفجر بطريقة صحيحة. وتردد أن الغرض من الجريمة كان إجراء مقايضة مع الأميركيين في قضية طائرة لوكربي، أي: نحن اتُّهمنا بإسقاط طائرة وأنتم اتُّهمتم بإسقاط طائرة فلنقفل الملف. طبعاً هذا تفكير ساذج».
سألت التريكي عن علاقة القذافي بالرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، فأجاب: «عادية، لكن الرئيس صالح كان يتهم القذافي بدعم الحوثيين وأن السلطات اليمنية صادرت أموالاً ليبية كانت مرسلة إليهم».
لا يتسع المجال هنا لإيراد عدد الغرابات والفظاعات التي ميّزت سلوك القذافي. ما يعنينا هو كيف أضاع حاكم مريض أربعة عقود من عمر بلاده. لم يترك جامعة تفاخر بها ولم يترك مؤسسة يمكن الاتكاء عليها. لا الجيش جيش ولا الدبلوماسية دبلوماسية. وإذا كانت ليبيا دفعت ثمن ارتكابات «ملك ملوك أفريقيا» فإنها دفعت بالمقدار نفسه ثمن عجز من أزاحوه عن إيجاد صيغة لحكم بلاد تحتاج إلى ما يشبه إعادة التأسيس. وربما يرجع الأمر إلى أن القذافي أُسقط بفعل تدخل عسكري خارجي ظن منفِّذوه أنه يجنِّب ليبيا خطر حرب أهلية طويلة تجتذب المقاتلين الجوّالين، وهو ما حصل لاحقاً في سوريا.
وكان من الصعب عليَّ وأنا أكتب المقال البارحة أن أنسى أنه الثاني من أغسطس (آب) وأن العراق لا يزال يدفع، ومعه المنطقة أيضاً، ثمن هذا اليوم من عام 1990. ما يعنينا من هذه الجريمة التي ارتُكبت بحق الكويت والعراق والتوازنات التاريخية في المنطقة هو أن رجلاً ينتمي إلى معسكر القساة أفاد إلى أقصى حد من غياب المؤسسات وأطلق زلزالاً لا تزال آثاره ماثلة حتى اليوم.
أروي هنا ما سمعته من رئيس أركان الجيش العراقي آنذاك الفريق أول ركن نزار الخزرجي. قال: «كنت نائماً في منزلي ليلة الأحداث. اتصل بي صباحاً سكرتير عام القيادة العامة الفريق علاء الدين الجنابي وطلب أن أذهب إلى القيادة العامة وحين دخلت مكتبه قال: أكملنا احتلال الكويت... بعد ربع ساعة وصل وزير الدفاع عبد الجبار شنشل وتم إبلاغه بالطريقة نفسها. تصور أن الجيش يُدفع في مغامرة من هذا النوع من دون علم وزير الدفاع ورئيس الأركان... ما عرفته هو أن صدام وضع الخطة شخصياً في حضور حسين كامل وعلي حسن المجيد. ربما استعانوا بآخرين من المقربين لمسائل تفصيلية، لكنّ الخطة كانت بين الثلاثة».
هل نبالغ إذا قلنا إن المنطقة برمّتها لا تزال تدفع ثمن ذلك القرار الذي نفّذه ذلك اليوم رجل توهّم أنه قائد تاريخي فذٌّ لمجرد أنه كان معجباً بستالين ووزع ذات يوم إحدى كراساته على كبار الجنرالات؟ في ذلك اليوم وبفعل جريمة الاحتلال أُصيب التضامن العربي بجروح قاتلة. ثم إن ذلك النهار سهّل في العقد التالي القرار الأميركي بغزو العراق في سياق حملة تأديب أميركية انطلقت تحت وطأة هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وتسبب ذلك النهار في إضعاف الضلع العراقي في المثلث العراقي – الإيراني - التركي. وها نحن نشهد اليوم عراقاً كبلاً بلغة الفصائل التي تدعمها إيران، وعراقاً تُرابط القوات التركية داخل حدوده وتستكمل حروبها على الأكراد فيه بينما يحاول مصطفى الكاظمي فتح بوابة الانتخابات على أمل إيقاظ مشروع الدولة.
غياب المؤسسات مأساة كاملة. والبرلمانات التي تُولَد في حواضن الميليشيات تبدِّد الآمال التي يطلقها غياب القساة لأنها تؤسس لعهد القساة الجدد. والفشل المتمادي للمؤسسات لا يقل خطورة عن غيابها. فهل كان لبنان ليشهد أوسع عملية سطو على أموال المودعين لو كانت هناك مؤسسات تراقب وتحاسب؟ وهل كان لبنان ليسقط في فخ الانحدار والانتحار لو كانت الانتخابات تسمح فعلاً بوصول مؤيدي مشروع الدولة والمؤسسات؟ فشل المؤسسات يعني غياب المؤسسات الحقيقية كما يعني ديمومة المأساة.