في 1961 ارتكبت سانت بطرسبورغ الجميلة إثماً عظيماً. أنجبت طفلاً فقيراً بشهوات شاسعة. لم يعرفِ الولدُ الفقيرُ والدَه الذي مات باكراً. راهنَ على رياضة التزلج للصعود، لكنَّه سرعان ما أقلع. مراهقٌ تعلَّم في أزقة المدينة فنَ انتزاع الأشياءِ قسراً وخارج القانون. لهذا أمضَى معظمَ عقد الثمانينات وراء القضبان. الإدانة واضحةٌ وصريحة. استخدامُ العنفِ في عمليات سطو على المارة. لم تدركِ المدينةُ هولَ ما فعلت. لم تتوقَّع أن يشقَّ الطفلُ لاحقاً طريقه إلى مجموعة «غينيس» للأرقام القياسية، لكن في عدد ضحاياه وحكايات الآبار والمناجم والقبور. قبل تسعِ سنوات كانت المدينة نفسُها أنجبت طفلاً سيمسك لاحقاً بقبضةٍ حديدية مصيرَ روسيا الخارجةِ ذليلةً من الركام السوفياتي. لم تتوقع أن تتداخلَ مسيرةُ الرجلين وتتشابك.
سنفتقده. عتاةُ الشياطين أصدقاء الصحافة. ينتزعون مواقعَهم في صدارة الأخبار ويسرقون العناوين. دَعكَ من الأبرياء. ليس لديهم قصةٌ تروى. لا يثيرون الإعجابَ ولا الغضب. لا الدَّم يسيل من أصابعهم ولا الفساد يتصبَّب من عيونهم. ينقصهم هذا النبات السحري الذي يُسمى الإثارةَ وهو العامود الفقري للصحافة والكتابة.
رجلٌ مثيرٌ واحد يكفي للفوز باهتمام القارئ. هذه المرة اختلطت قصةُ الرجلِ المثير بقصةِ الرجل المثير الذي صنعه وأطلقه وقدَّم الغطاءَ المقدَّسَ لممارساته. شاءت الصدفةُ أن ترتبطَ حكاية يفغيني بريغوجين، جنرال «فاغنر» والمرتزقة، بحكايةِ الرجل المقيم في مكتب ستالين واسمه فلاديمير بوتين.
في التسعينات راقبَ بريغوجين صعود «البارونات الحمر» الذين استولوا بالتَّحايل والقوةِ على أملاكِ الاتحاد السوفياتي القتيل. سبحوا في الثرواتِ الطازجة وأحاطوا أنفسَهم بالحراس والطائرات الخاصة والنساءِ الساحرات. في المدينة نفسِها كان بوتين العائد مهزوماً من قرب جدار برلين يراقب روسيا تتلوَّى على وقع الكارثة وشراهة الذين أطربهم سقوطُ الحزب الشيوعي وآلتِه الأمنية الصارمة. وكانت البلادُ تتداعَى تحت وطأة هزيمتها التاريخية. وكان الكرملين يتداعَى تحت هفواتِ رئيسٍ اسمُه بوريس يلتسين ينشغل بملء كأسِه أكثرَ ممَّا ينشغل بمستقبل البلاد.
الصدفةُ مصممةُ أزياءِ المصائر. في 2001 اصطحب بوتين ضيفَه جاك شيراك إلى مطعم في مدينة سانت بطرسبورغ. كانَ الطعام شهياً وسلوكُ صاحبِ المطعم يوحي بلمسة إتقانٍ وولاء. بعد عامٍ سيعود بوتين إلى المطعم نفسِه مصطحباً هذه المرة جورج بوش الابن. لن يضيعَ بريغوجين الفرصة. أعظم الجوائز في روسيا العميقة والعظيمة والغامضة هي أن تشقَّ طريقك إلى عقل القيصر أو قلبِه. نسي بريغوجين السنوات التي قضاها وراء القضبان، لكنَّه تعلَّم منها لغة السجناء وقسوتهم وأسلوبهم الفظ في التخاطب. ارتدى ثوبَ رجل الأعمال ومنحه سيده فرصة صعود السلالم بقفزات سريعة. سيشرف على توفيرِ المآكل في مآدب السيد الرئيس. ثم سيتولَّى توفير الأغذية للجيش. عقود تثير اللعابَ ولا يمكن الفوز بها لولا رضا صاحبِ الأختام والأيام.
في 2014 افتتح بوتين موسمَ الثأر الطويل. أعاد شبهَ جزيرة القرم إلى الحضن الروسي الدافئ. افتتح زعزعةَ الاستقرار في الدونباس الأوكراني. توافد متطوعون من العسكريين الروس المتقاعدين ومعهم باحثون عن حرب وراتب وغنائم. لم يضع بريغوجين الفرصة. ولدت شركةٌ أمنية اسمُها «فاغنر» باستطاعة عناصرها ارتكاب ما قد يتردَّد الجيش الروسي في ارتكابه. وبعد عامٍ سيقلبُ بوتين سيرَ الأحداث في سوريا وسيتولَّى زعيم «فاغنر» حراسةَ آبارٍ للنفط فيها مقابلَ عائد شهري في موازاة مشاركتِه في بعض المعارك ضد «داعش».
بدت اللعبة مربحة. سيذهب بريغوجين إلى أفريقيا. سيحرس المناجمَ موفراً أيضاً خدماتٍ أمنيةً للبلدان المضيفة. يحبُّ الذهبَ والمعادنَ الثمينة ولا يتردَّد رجالُه في قتل من يقترب أو يعترض طريقَهم. في 2018 حاول ثلاثةُ صحافيين روس كشفَ طلاسم دور «فاغنر» في أفريقيا الوسطى فحوَّلهم جثثاً. سيد المرتزقة لا يرحم. حين أطلق بوتين حربَه في أوكرانيا سنحت له فرصةُ عمرِه.
تقدم الجيش الروسي لالتهام كييف لكنَّها امتنعت فارتد تاركاً دبابات محترقة. لم يخف «المهرج» فولوديمير زيلينسكي ووقف في وجه العاصفة مستنهضاً مواطنيه والعالم. ولم يتردَّد الغرب في ضخ المساعدات في عروق بلاده.
خاف بوتين من عدد النعوش العائدة إلى الأراضي الروسية. خيّبه الجيشُ الذي أنفق مئات المليارات في تحديثه. أذهله انتقالُ المبادرة إلى يد العدو. اتكأ على بريغوجين. أعطاه ما لم يعطه لغيره. سمح له أن يذهبَ إلى السجون وأن يغرفَ منها. وعد بالعفو عمَّن يقاتل ستةَ أشهر في أوكرانيا. انجذب الآلاف إلى جيش «فاغنر». على مداخل باخموت الأوكرانية وفي أنفاقها تراكمت جثث المحاربين. سمع العالمُ صوت بريغوجين هادراً. قيادة الجيش الروسي تبخل عليه بالأسلحة والذخائر. تحدث عن جبن وفساد وخيانة. وتصاعدت لهجته حين اقتحم المدينة وسط بحر من الدماء. حاز سيدُ المرتزقة صورةَ البطل لدى بعض أبناء شعبه. والانتصار بوابة الغرور وبوابة الانتحار أيضاً. دخل زعيم «فاغنر» المنطقة المحظورة. شكَّك في الحرب التي سمَّاها بوتين «العملية العسكرية الخاصة» وهي في الواقع أخطر نزاع منذ الحرب العالمية الثانية.
تصرف بريغوجين كأنَّه من أنقذ بوتين من الذهاب إلى التاريخ مصاباً بلعنة باخموت. أحدث ثقباً في هالة الجيش وقيادته. أحدث ثقباً في هالة الكرملين وسيده. تكلَّم كمن يعتبر نفسه رقيباً أو شريكاً. بلغ به الأمرُ حدَّ عصيان الأمر. حدَّ التمرد والزحف في اتجاه موسكو. جرحت صورُ الإعلام الغربي مهندسَ الانقلاب الكبير. تحدَّث عن «الخيانة». وعقاب الخيانة معروف. مطرقة على رأس الخائن كما فعل بريغوجين مراراً وتباهى.قطعُ رأس «فاغنر» لن يقتلَها. سيعيدها إلى بيت الطاعة. ستكون مختلفةً بالتأكيد. لكل زعيمٍ أسلوبُه ومطرقتُه. الأهم هي الحربُ المفتوحة. أوكرانيا نفسُها قد تقتل تحت مطرقة الحرب. وقد يقتطع جزءٌ من جسدها. وقد تنهال مطرقة الحرب إن طالت على روسيا نفسِها. قد تتحوَّل مجرد قوة إقليمية تتكئ على بكين في عالم ترث الصين فيه الموقعَ الذي كان للاتحاد السوفياتي.
حفرَ بريغوجين قبوراً كثيرة لكثيرين. في الشهور الماضية بدا ابنُ سانت بطرسبورغ كَمن يحفر قبرَه.