جدران العار

جدران العار

جدران العار

 عمان اليوم -

جدران العار

غسان شربل

غلبتني الحشرية الصحافية. قلت أمضي نهاية الأسبوع في برلين. لأشارك أهلها والوافدين احتفالاتهم. وقلت أذهب لأقف أمام بوابة براندنبورغ. تماماً كما فعلت قبل خمسة وعشرين عاماً مع الصحافيين الذين توافدوا للمشاركة في تشييع الجدار. واعتبرت الرحلة مناسبة لأتصرف كصحافي طبيعي يغطي حدثاً طبيعياً. فأنا مذ توليت عملي الحالي أمارس مهنة أخرى. لعلها أقرب إلى مهنة حفار القبور. أول ما استقبلت كانت الجثث الوافدة من عراق ما بعد صدام. ثم كرت السبحة. جثث لبنانية وفلسطينية وليبية وسورية ويمنية ومصرية وسودانية من دون ان ننسى الصومال. صارت مهمتي الأولى العثور على مدافن لائقة في الصفحة الأولى للمذابح المميزة. والعثور على أماكن لصور أنهار الأرامل والأيتام واللاجئين والمقتلعين.
زاد في حشريتي أن برلين دعت الى احتفالاتها الرجل الذي أغتال الجدار ومن دون ان يتقصد ذلك. انه ميخائيل غورباتشوف الذي غيّر العالم حين حاول دفع بلاده الى التغيير. شاءت المهنة أنني كنت قبل ثلاث سنوات من سقوط الجدار في قاعة الكرملين حين ألقى الرجل قنبلتين هما البيريسترويكا (اعادة البناء) والغلاسنوست (الشفافية). توقعنا يومها أن تهب العاصفة على الحرس السوفياتي القديم لكننا لم نتوقع اعصاراً يكون جدار برلين أول شهدائه.
وقلت أقتدي بما فعلته قبل ربع قرن. أحجز في أقرب فندق إلى الجدار. وأجلس في أقرب مقهى. وأمضي الساعات الأولى من الليل قبالة بوابة براندنبورغ. فجأة انتابني سؤال صعب: ما علاقتي أنا العربي بمدينة تحتفل بموعد من الماضي لترسخ رحلتها نحو المستقبل؟ أعرف أن تعبير «أنا العربي» صار غريباً. وعجيباً. وفظاً. ومستهجناً. وخاوياً. لكنني أخاف إن أنا تخليت عنه أن يقتلني البرد في الخريطة الصغيرة وتقتلني العزلة في الهوية الجديدة الخارجة من ركام الكيان الممزق.
كانت برلين مجنونة. دفعها هدير التاريخ في شرايينها الى التلاعب بالجغرافيا. أنجبت أفدح وحوش التاريخ. شطبت حدوداً وألغت دولاً وشعوباً. سبحت في دم الآخرين ثم سبحت في دمها. ثملت من فرط كؤوس القوة والغرور. ثم ثملت من كؤوس الهزيمة والركام. قطعت أوصال القارة ثم قطعوا أوصالها. لكن ذلك كان. وقفت أمام تاريخها. تفحصته واستجوبته. خرجت بخلاصات واستنتاجات. تركت مدفعاً وبَنت مصنعاً. تركت انتصاراً واعتنقت ازدهاراً. تركت الشراهة واختارت الشراكة. وبسلاح الدولة المطمئنة بديموقراطيتها ومؤسساتها اغتنمت الفرصة واستعادت وحدتها على رغم قلق فرنسوا ميتران ومارغريت ثاتشر ليلة سقوط الجدار. ثمة جاسوس برتبة كولونيل حزن في تلك الليلة. جمع أوراقه وغادر بلاد الجدار. عزاؤه أنه يجلس اليوم في مكتب جوزف ستالين.
امام بوابة براندنبورغ ، قبل ربع قرن، انتابتني أسئلة ساذجة. سألت نفسي متى ستسقط جدران الظلم والاستبداد والتخلف في عالمنا العربي؟ متى نستجوب تاريخنا ونغادره؟ متى نغادر عفونة الكهوف ونتصالح مع الحرية وكرامة الانسان ونتقبل التعايش مع الآخر المختلف تحت سقف الدولة والمؤسسات؟ وهل نلتقط الفرصة للحاق بعالم يطوي صفحة الجدران فاتحاً الباب لتدفق الأفكار والسلع والثورات التكنولوجية المتلاحقة؟
خلال ربع قرن أخذتني المهنة الى كل هذه العواصم التي تنتج اليوم الانتحاريين والمجاهدين والممانعين والرؤوس المقطوعة والمقابر الشاسعة والحروب الأهلية. نمت في صنعاء. ودمشق. وبغداد. والخرطوم. وطرابلس. وغيرها. وسمعنا من معارضين سريين ومكتومين أن المشكلة في حزب او رجل وأن ابواب المستقبل ستفتح فور رحيلهما. ثم كشف الربيع أننا لا نزال عبيد تاريخنا. عبيد محطات الفتك فيه وأننا نرضع مع الحليب والكراريس الأولى لغة الكراهية والشطب والجدران. يذهب المستبد فينفرط عقد البلاد.
ماذا سيفعل العربي في برلين حين تنطلق آلاف البالونات المضيئة؟ وماذا سيقول حين يسمع الألمان يحتفلون بسقوط «جدار العار»؟ سيغمره الخجل بالتأكيد. جدران العار تكتسح خرائطنا وعواصمنا. تكتسح عقولنا وكتبنا وعيون أطفالنا. نذبح على الهوية. ونقصف على الهوية. ونسحل على الهوية. ونسبي على الهوية. تسافر برلين الى المستقبل. ونسافر نحن الى عتمات الكهوف. يستحسن ألا يذهب العربي إلى برلين.

omantoday

GMT 10:48 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 10:47 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 10:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 10:45 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 10:44 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 10:43 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 10:42 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

GMT 10:41 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أنا «ماشي» أنا!.. كيف تسلل إلى المهرجان العريق؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جدران العار جدران العار



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ عمان اليوم

GMT 09:39 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 عمان اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:45 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 عمان اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 15:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 10:16 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab