لم تكن الزيارة الأولى لمنطقة القناة، يوم الخميس الماضي، وبدعوة من الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي تقصَّد أن توجه الدعوات باسمه شخصياً إلى جميع المدعوين، رسميين ومعنيين ومهتمين، توكيداً لارتباط هذا المشروع الحيوي بقيادته كإنجاز تاريخي يمكن أن يشكل منطلقاً لنهضة شاملة تستولد مصر الجديدة المؤهلة لدخول العصر، وقد استعاد شعبها جدارته بتاريخه وبحقه في مستقبل أفضل، وبالتالي في الدور القيادي عربياً والمميَّز دولياً.
تسنّى لي من قبلُ أن أزور القناة وهي جبهة ملتهبة بنار العدو الإسرائيلي، ثم وهي شاهد على إمكان النصر الذي أُجهض فأُغرق في رمالها في خريف 1973، وقد تناثر فوق جنباتها حطام «خط بارليف» الذي انهار مع القفزة الأولى لأبطال العبور. لكن ذلك حديث ينكأ الجراح فلنتجاوزه إلى الواقع الجديد الذي سيتدخل في صنع مستقبل يليق بمصر وتضحيات شعبها العظيم وبين عناوينه قناة السويس الجديدة.
في الزيارات الثلاث السابقة، كانت القناة معطلة يتناثر في جنباتها حطام السفن التي دمرها القصف والضفتان جبهتان لحرب مؤكدة سرعان ما طوى احتمالها الدخول في سرداب التفاوض، فالزيارة وصولاً إلى كامب ديفيد.
ما علينا وحديث الماضي، وهو مؤلم، فلنعش لحظة الفرح بالإنجاز حيث شهدنا، مع العالم كله، التطور المهم الذي استولد من القناة الأصلية وعلى ضفتيها، قناة جديدة بفرعين متكاملين من المقدر أن ينتجا نهوضاً اقتصادياً مؤثراً، يشمل إلى تزايد حركة النقل مناطق صناعية ومناطق حرة واسعة، مع احتمال مفتوح لإعمار مناطق واسعة من صحراء سيناء.
في المرة الرابعة إذاً، يوم الخميس الماضي الواقع فيه السادس من آب 2015، شهدنا مع العالم كله هذا التطور الذي استولد قناة جديدة بفرعين متكاملين يمتد الفرع الجديد منهما لمسافة 35 كلم. هذه المرة لم يكن العسكر المقاتل بالسلاح هو البطل، بل كانت الإرادة، إرادة الشعب المصري هي البطل. فالشعب هو الذي موّل هذا الإنجاز: البعض بمدخَّراته، وهو الأكثرية، والبعض بشيء مما يملك. وكان الشعور الوطني يتقدم على الرغبة في الربح مما جعل الشعب المصري، بأطيافه جميعاً، الفقيرة والمتوسطة قبل الأغنياء من نهّابي عهود الانفتاح، يندفع إلى تمويل المشروع الممتاز، مراهناً على المستقبل في مصر، وبجهد المصريين اساساً، وبعد ذلك يمكن الحديث عن الاستثمارات الأجنبية التي يفترض أن تشارك في تحويل الضفتين من ارض رملية إلى مناطق صناعية ومستودعات ضخمة للتبادل التجاري، دولياً، قبل الحديث عن احتمال قيام مدن جديدة بوشر ببناء بعضها بجهود طلائع المتخرجين الشباب الذين قرروا أن يكونوا رواداً في تعمير الصحراء وتخضيرها.
الموضوع هو هذا الشعب الفقير الذي لم يتردد في تمويل مشروع مردوده طويل الأجل ويفترض عهداً طويلاً من «السلام» مع العدو الإسرائيلي الذي ما زال الوجدان المصري يحتفظ له بصورة العدو، وإن أرجأ التفكير فيه هذه اللحظة بغير أن ينسى أو يغفر.
الشعب يحس هذه اللحظة بزهو: أنه قادر! وأنه استجاب إلى طلب اقتنع بجدواه فأقدم على الاستثمار بمدخراته، وكان الفقراء ومتوسطو الحال أسبق من الأغنياء إلى المبادرة بالمساهمة التي يمكن اعتبارها نوعاً من التبرع الذي شدّته الوطنية أكثر من الشبق إلى الربح السريع.
الشعب بإرادته هو الحاضر الأكبر في هذا الاحتفال الذي أريد منه أن يكون «رسمياً» محدود الجمهور، وإن كانت الصورة المشرقة ببهائها قد وصلت إلى المصريين جميعاً، بل إلى العالم كله.
ولعل أبرز الدلالات لهذا الحفل أن الشعب قد انتصر على «الإخوان». انتصر للدولة وانتصر بها.
لقد أكد شعب مصر المؤكَّد: أن مرجعه الدولة، وأن ثوراته المتلاحقة كانت من أجل استنقاذ الدولة، وانه يميز بين «الرئيس»، إذا ما عارضه، وبين «الدولة». وهو قد يتحرك ضد الرئيس ـ إذا رآه مخطئاً ـ ولكنه لا يهدم الدولة ليتخلّص منه. الدولة مقدسة او تكاد. وبرغم ما يُقال عن ضعف الشعب تجاه الشرعية، وبالتالي الرئيس (حتى المشكوك في نزاهة انتخابه كالدكتور مرسي) فإن تحركه يظل موضوعه «الرئيس» لا «الدولة» - يحافظ على الدولة العميقة والعريقة والثابتة في وجدانه باعتبارها ضرورة حياة وعنوان تحضّره وتقدمه وتمييزه بين الحاكم (ولو كان فرعوناً، كما الاتهام الدائم للمصريين) وبين الدولة. فالدولة دولته ولذا يحافظ عليها مهما اشتد اعتراضه على فرعون الحاكم.
مسألة الدولة في المشرق لم تستقر في الوجدان كضرورة حياة، كعنوان لأهليّة الشعب. ظلّت إلى حد بعيد خارجه. الحاكم فيها هو الأقوى حضوراً إلى حد طغيان صورته على وجودها. الشعارات تجعل الرئيس أهم من الدولة. هو الثابت مع أنها هي الأصل في الوجود، والرئيس ليس نتيجة صراع يتغلّب فيه عادة العسكر، بل هو من ثمار وجود الدولة.
لقد ثبت أن المصريين «يعبدون» الدولة لا الفرعون، بينما في المشرق صار «الفرعون» المتبدل، المتغير بما يتناسب مع صراع القوى وأخطرها العسكر، هو الأساس والدولة بعض نتاجه، ولا يهم أن تذهب طالما هو باق، ولطالما ضحى رؤساء في المشرق بالدولة وقبِلَ الناسُ فكرة أن الرئيس أهم من الدولة، وكأنه هو من أنتجها، وليس العكس.
«المدني» الوحيد الذي حكم في المشرق العربي، وتحديداً في بعض أهم دوله (سوريا، العراق، الأردن، وحتى اليمن) في نصف القرن الأخير هو «صدام حسين» الذي سرعان ما عيّن نفسه «فيلد مارشال» لكي يستطيع السيطرة على الجيش بالرتبة الأعلى ومعها بضعة أجهزة مخابرات.
حتى اليمن حكمه عسكري طوال ثلث قرن أو أكثر، بعد سلسلة انقلابات عسكرية أنهت فيه الحياة السياسية، وتركته عاجزاً في مواجهة الخارج، عربياً كان بكوفية وعقال ومطامع عتيقة، أو أجنبياً يطمح إلى السيطرة عليه لموقعه الإستراتيجي الخطير.
التهمَ العسكرُ الأحزابَ في المشرق العربي، والتهموا الدول.
في مصر سيطر العسكر على الحكم منذ 63 سنة لكن الدولة العميقة ظلت قائمة.
عدّل العسكر في النظام القائم، لكن الدولة ظلت عصية على الاندثار، وظلت أقوى من حكّامها مع أن بعضهم أسهم، بالصح أو بالغلط، في كتابة تاريخ جديد لمصر، بل للأمة جميعاً.
أما في المشرق فبنى كل حاكم دولته التي كثيراً ما زالت بسقوطه، لا فرق بين أن يكون قد قضى بالوفاة أو اغتيالاً.
وبالعودة إلى مصر ومشروع القناة الجديدة، لا بدّ من التوقف أمام ظاهرة دور الشعب في إنجاز أسباب التقدم، عندما يُسمح له بأن يشارك فعلاً بجهده وحتى بماله، ولو كان قليلاً، ثم يتقدم لحماية الإنجاز بدمه إذا اقتضى الأمر.
لقد عشنا، نحن المدعوين، عرباً بالأساس ثم الأجانب، لحظة الفرح النادرة التي أتيحت للمصريين وهم يشهدون مقدمات الإنجاز الذي شاركوا في تحقيقه: صحيح أن القرار للقيادة، لكنهم هم الذين تصدوا لتحقيقه. هم الذين موّلوه، بقروشهم القليلة، قبل مساهمات أغنياء الصفقات والمصادفات فيه.
على امتداد الطريق كانت معالم الفرح تشيع البهجة في الوافدين ليشهدوا الإنجاز. كان كل مصري وكل مصرية يتصرف وكأنه صاحب المشروع. وكانت الفرحة خليطاً من البهجة بتحقيق إنجاز وطني ممتاز ومن الشعور بالزهو بأنه قد ساهم بقروشه في هذا الإنجاز، وكانت استعادة أغاني مرحلة النهوض الوطني ـ القومي التي احتلت «القناة» موقعاً مميزاً فيها خير تعبير عن تعويض بعض ما ضاع من زمن ومن ربح فائت.
وهكذا ترقرقت الدموع في عيون الشباب والصبايا وهم يسبقون شرائط التسجيل في إطلاق أصواتهم بالأغاني التي كتبها صلاح جاهين أساساً وغناها عبد الحليم حافظ والسيدة أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وكثر غيرهم لبطل تأميم القناة واستعادتها إلى السيادة المصرية ثم مواجهة «العدوان الثلاثي» والانتصار عليه، وبناء السد العالي، والذي له اسم بات نشيداً: جمال عبد الناصر.
ها هي مصر في طريق العودة إلى موقعها ودورها، وبفضل المصريين جميعاً، الذين لولاهم لظل قرار صاحب القرار معلقاً في خانة التمنيات.
هل نحن أمام صفحة جديدة في التاريخ العربي الحديث؟ أم أننا بعد في دائرة التمني؟ الجواب في وقائع ما بعد التأميم الثاني للقناة.
تنشر بالتزامن مع جريدة « الشروق» المصرية.