علي الأمين
الموت إحدى الراحتين. ليست البلاد في عافية. لا حال يسعد ولا نطقٌ. الحياة اللبنانية نحو ضمور ويأس، فيما العزلات التي تعيشها المجموعات اللبنانية لا تفتح الباب نحو عوالم جديدة أكثر ألفة أو تغري بآمال البحبوحة... بل بعيش الناس كفاف يومهم "يا دوب". الحياة تضمر، والعقل أيضاً، والآفاق تضيق وتنحسر لتتحول إلى جدران تألفها العين ويأنس بها العقل المثقوب الذاكرة. هي التي تتلاشى إلاّ على حكايا الزوايا، ومقولات الانتشاء بأناشيد "الفرقة الناجية". الله هو "الأنا" لذا فالآخر هو الشيطان.
ليس في الأفق نجوم. ضاق الأفق فتناسل الأقزام في أسفل الجدار. تفككت اللغة، والحلم لم يعد فكرة. الأحلام تقزمت وتكورت وانكفأت نحو زاوية مظلمة في آخر الجدار. ضاق المدى فتقاطر الأقزام كأفكار سوداء، كموت الله ذات فيلسوف. يغري هذا الظلام، لكن بمزيد من الأسود الكالح، بالاستسلام للوحش ذاك الذي أطلّ في اجتماعنا السياسي والديني وشهوة القتل في عينيه. لم يبق في المدى إلا الفكرة القاتلة للإله. لكأن موت الله لن يتحقق إلا بسيفه. لقد أخطأ الفيلسوف الشهير نيتشه عندما أعلن موت الله. لم يكن ليدرك أنّ المعرفة التي وصل إليها الانسان والتي باتت تتيح له أن يقول "مات الله" في لحظة شطط معرفي، مستندة إلى منجزات إنسانية غير مسبوقة... وأنّ ثمة وجهاً آخر لموت الله، هو حين يصير الله قزماً خلف جدار. قزم يغويه الموت، ويتسلل كوحش ينقض على عنق الحلم ويطعن بسكين الحقد صدر الحياة. موت الله هذه المرة تعبير عن الانهيار الذي تعيشه بلادنا لمقولة الإله، ذاك الذي تحول قزماً في قامة خليفة أو وليّ أو شيخ طريقة، لمن في الموت وليس في الحياة. بل أبعد في فكرة تعميم الموت وعبادته.
ليس في الأفق مساحة حياة. تنحسر الحياة نحو عتمات الموت. نستسلم للسواد، للفكرة القزمة، للجدران المغلقة. ونمني النفس بحياة ما بعد الموت. وهل يبني الإنسان جنته من خارج دنياه؟ "الجحيم هو الآخر"، إذاً هو الموت بعينيه، وما الجنة إلا ما نشتهي ونتمنى. وهل نتمنى غير موت الآخر؟ إذاً هو جنتنا وجحيمنا في آن. فاختر ماذا تفعل. الحياة امتحان لقدرتنا على إعمارها لكي تشبهنا. بل هي على صورتنا التي تتفسخ وتتلاشى كما الجسد الذي استوطن فيه الموت.
الموت أيضا هو الاستسلام للآلهة التي تنتشي من وليمة الدمّ. هو العجز عن ابتداع الحياة بحرفة تجاوز الآلهة التي صنعناها من تمر أجسادنا وسقيناها من دمنا لتروي عطشنا إلى الجحيم. ففي نشوة الغريزة يتحول القتل إلى فعل مقدس، إلى تمرين صباحي ومسائي نتلقن أدواره في حلقات، نتقاسمه بالعدل والقسطاط كي لا يخرج يوما أحد ويقول: "أنا بريء من دم الحياة".
هكذا تنحسر الحياة، تتلاشى في أقبية الظلام، تتحول السياسة إلى فعل قتل يومي، فعل انتهاك مستمر للاجتماع الانساني... وفي المشهد اللبناني ينكشف الواقع على أن القوة هي في قدرتك على ممارسة فعل القتل بنشوة المنتصر، في مدى قدرتك على أن تكون الهاً، تسجد لك الرؤوس المطأطأة حين تشتهي مشهد مزرعة البصل. ومن شروط اكتمال الألوهة قدرتك على جمع الجماجم لتقف على تلالها كي تقارع الحياة. هكذا تبدو الحياة طريدة في هذا الوطن. وما الأمن الوهمي الذي نعيشه إلا ذاك السكون الذي يسبق صوت طلقة الصياد وهي تخترق جسد الطريدة أو روحها.
لبنان يختنق بعزلته، يتنفس ما ينفثه من رئتيه، يتحول إلى مساحة منسيّة، إلى فكرة مثقوبة برصاص مسموم. حراس الموت ترهبهم فكرة أن الوطن قد يستفيق، وأنّ ثمة في مكان عميق إرادة حياة قد تتسلل تحت من ركام الموت. الموت هذا هو العجز حين يتخفى بادعاءات الحياة الجوفاء. في لبنان ثمة أقزام يهنأون بالظلمة خلف الجدار، يريدون وطناً دون قامتهم، وطنا لا تسكنه الأحلام، بل تعشعش في ثناياه كوابيس، وتحتل أفراحه رقصات الموت. البلد حزين، تحكي الوجوه ما لا تدركه الألسن، يتسلل الموت كالنعاس، ولا صوت غير ضجيج الآلهة وقرقعة الجماجم الفارغة.