كما على منصة المباريات الرياضية الثلاثية، كما حال جمهورية لبنان منذ ارتدادات هزيمة حزيران إلى غاية نهايات القرن المنصرم.
قبل ذلك، كان لبنان الماروني يقف على الرقم (1) وخير ما يدل عليه هو تصريحات زعيم ومؤسس «حزب الكتائب»، بيار الجميّل: «قوة لبنان في ضعفه». كانت هذه مرحلة دبلوماسية فيليب تقلا، وزير الخارجية آنذاك.
العام 1975 كان مفصلياً، فقد تطوّر العمل الفدائي السري عام 1968 إلى اتفاقية القاهرة بين المقاومة الفلسطينية والجيش اللبناني، ثم إلى «فتح لاند» و»جمهورية الفاكهاني» الفلسطينية، ثم ما يشبه «لبنان الفلسطيني» و»القوات المشتركة» الفلسطينية ـ اللبنانية، وصار شعار زعيم «الكتائب» بيار الجميّل: «أي لبنان نريد؟»، أي كيف ستكون «الصيغة اللبنانية» الطوائفية العجيبة، حيث يقف السنّة على الرقم (2) من المنصة، والشيعة على الرقم (3).
مع الخروج المشهدي الفلسطيني من لبنان 1982، واحتلال الجيش الإسرائيلي لأوّل عاصمة عربية، بدأ صعود مرحلة «لبنان الشيعي»، وتحولت حركة «أمل» (حركة المقاومة اللبنانية) من حليف لـ «جمهورية الفاكهاني»، إلى خصم للفلسطينيين في ما يُعرف بـ «حرب المخيمات» بدعم سوري كان يمقت «جمهورية الفاكهاني» وهي كانت بمثابة «كومونة» فلسطينية ـ لبنانية ـ أممية.
جناح شيعي مسلح تدرب في قواعد الفدائيين، مثل «أمل» كان ينهض تحت اسم «حزب الله» وينافس «أمل» على الزعامة الشيعية، التي كبرت وصارت بعد العام 1994 تقف على المنصة رقم (1) بدعم سوري ـ إيراني.
لكن، بقايا «القوات المشتركة» التي كانت حليف «لبنان الفلسطيني» و»جمهورية الفاكهاني» قادت المقاومة ضد الاحتلال تحت اسم «جمول» (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية)، بقيادة شيوعية ـ يسارية ـ عروبية ـ ناصرية. مثلاً: كانت سناء المحيدلي أول شهيدة يسارية حاولت قتل الرائد سعد حداد زعيم «جيش لبنان الجنوبي».
سورية الأسدية، حليف إيران، وجناح «حزب الله» حاربا جبهة «جمول» والمفكّرين اليساريين الشيعة، ولم يوفرا سلاح الاغتيال ضد المفكر حسين مروة، والمفكر حسن حمدان (مهدي عامل) وحتى زعيم الحزب الشيوعي اللبناني.
بدءاً من العام 1994 احتكر «حزب الله» المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي بعمليات كانت توقع 24 _ 26 قتيلاً في السنة، إلى أن انسحب جيش الاحتلال من جنوب لبنان عام 2000، وبدأت مرحلة «جمهورية الضاحية» الشيعية الموالية لإيران. بعد إزاحة جناح زعيم الحزب العلّامة محمد حسين فضل الله، الذي كان يقول: نحن تلاميذ الفدائيين الفلسطينيين، وتولِّي حسن نصر الله القيادة. صار الحزب ذراع إيران.
انتهت مرحلة «قوة لبنان في ضعفه» وبدلاً من اتفاقية القاهرة بين الفدائيين والجيش اللبناني، تمكن «حزب الله»، بعد العام 2000، من تفاهم مع الجيش اللبناني كرديف، ثم تمكن من تنصيب زعيم عسكري ماروني، هو ميشال عون، رئيساً للجمهورية، وحصل تحالف بين قصر بعبدا الجمهوري و»جمهورية الضاحية».
طهران ردّت جميل سورية الأسدية في دعمها لها خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية بدعم النظام السوري بعد انتفاضة ربيع 2011، وحزب الله ردّ جميل سورية بدعمها له ضد المقاومة اللبنانية «جمول».
هذا اللبنان العجيب تمكن من هزيمة «لبنان الفلسطيني»، ولو بفضل الاجتياح الإسرائيلي، ثم أخرج الجيش السوري من لبنان عام 2004، بعد اغتيال الزعيم السنّي رفيق الحريري، وأخيراً تمكّن من طرد الاحتلال الإسرائيلي بلا شروط عام 2000، وخاض «حزب الله» عام 2006 حرباً مع إسرائيل أوقعت 160 قتيلاً فيها، معظمهم عسكريون، وآلاف من اللبنانيين.. ودمّرت إسرائيل «جمهورية الضاحية» التي وقفت على قدميها، وصار «لبنان الإيراني» غابة من الصواريخ، وأقوى ذراع لإيران في المنطقة تخشاه إسرائيل وتحسب له الحساب أكثر من غاراتها على سورية ثم على الذراع الإيراني في العراق، تحت مسمّى «الحشد الشعبي».
كانت إسرائيل لا تزال تفاخر بذراعها القوية، بفضل سلاح جو فعال جداً، وصارت إيران تتحداها بأذرع عديدة في العراق وسورية واليمن.. وحتى في قطاع غزة ولو جزئياً.
أولاً، طبقت إسرائيل شعار لا حصانة لإيران في سورية، ثم لا حصانة لها في العراق، لكن لما قالت إنه لا حصانة لـ «حزب الله» في لبنان اختلف الأمر، وتوعّد وهدّد «حزب الله» بالرد، وعلى الأغلب سيكون ردّه على غرار الجناح الحوثي ـ الإيراني بطائرات مسيّرة (درون) لا بصواريخ تغطي إسرائيل، بانتظار نجاح إيران في جذب أوروبا ضد العقوبات الأميركية، بعد انسحاب ترامب من اتفاقية فيينا النووية، والتحدي الأميركي ـ الإيراني في مضيق هرمز، وتهديد إيران باستئناف تدريجي لبرنامجها النووي، وانسحابها من التزاماتها في اتفاقية فيينا.
إيران ردّت بذكاء عسكري وسياسي ودبلوماسي على التحدي الأميركي. إسرائيل تجنّبت منذ العام 2006 «نكش» عشّ الدبابير اللبناني، أو ترسانة الصواريخ لدى «حزب الله».
هناك أسباب تجعل إسرائيل لا تخاف من امتهان الدفاع السوري ضد الانتهاكات الإسرائيلية، أو الاستخفاف بإيران في العراق، لكن تحسب حساباً للذراع الإيراني في لبنان، الذي يشكله «حزب الله».
أميركا ابتلعت إهانة إسقاط إيران لطائرة مسيّرة أميركية، هي فخر ما تملك من هذا السلاح، لكن «حزب الله» يصعب عليه ابتلاع إهانة طائرتين مسيّرتين ضربتا «جمهورية الضاحية الجنوبية»، لأن الأمر يتعلق بهيبة حزب انتصر على إسرائيل عام 2000، وحرّر أراضيه المحتلة بالقوة، وتحدّى الجيش الإسرائيلي في حرب العام 2006.
إيران تلعب صراعها بذكاء، وإذا كان «حزب الله» يتلقى تعليماته من طهران، فسنرى كيف سيكون الرد محسوباً، لكن قد يتدهور الرد إذا كان خيار ترامب هو الحرب مع إيران وليس مفاوضات لتعديل العقوبات أو اتفاق معدل من اتفاقية فيينا.
أميركا تستفز إيران، وإسرائيل تستفز أذرعها الطويلة.