بقلم : معتز بالله عبد الفتاح
كتبت من قبل عن نجاح الصين الاقتصادى، وكيف أننا نعيش فى عالم صينى، حيث تقريباً كل السلع المعمّرة وغير المعمّرة، التى نتداولها فى أسواقنا ممهورة بعبارة «Made in China». ما الذى كان ينبغى علينا أن نتعلّمه؟ وشكلنا مافكرناش أصلاً نتعلمه. أولاً، فى الصين سلطة تقود الدولة، ودولة تقود المجتمع. سلطة الحزب الحاكم من القوة، بحيث إنه وضع رؤية للبلاد منذ أواخر السبعينات، انصاعت إليها الدولة بأجهزتها البيروقراطية المدنية والعسكرية، ومن لا يريد ولا يقبل الالتزام بهذه الرؤية فلا مكان له فيها. ثم تنجح الدولة فى تسويق أفكارها للمجتمع الذى يقبل هذه الأفكار ويتبنّاها ويصبح مؤمناً بها. فى الصين الإعلام لا «يُطبل» للحاكم، لكنه يبنى البلد، يُعلّم الناس الأخلاق الشخصية والاجتماعية ويُركّز على المهارات الاقتصادية والتجارية والصناعية. لذا لم يكن مستغرباً وصف الصين بأنها «ورشة صناعية» مهولة تُحقّق أعلى معدلات نمو فى العالم بنسبة لا تقل عن 8% سنوياً منذ أكثر من ربع القرن.
ثانياً، روح التحدى والخروج من الهزيمة النفسية: كانت الصين حتى منتصف القرن العشرين كياناً هزيلاً ضعيفاً يعانى من تفشى الجهل والفقر ونقص التقنية وضعف الهوية القومية والهزيمة النفسية وسيادة القوى الأجنبية، حيث بلغت نسبة الأمية عام 1949، نحو 80% من السكان، وهو عامل قوى كان يكفى لتحطيم كيان أى دولة، لكنها فى خلال ربع القرن انتقلت مرة أخرى فى تاريخها الذى يعود إلى أكثر من 5000 سنة لتصبح قوة عظمى تُنافس الولايات المتحدة الأمريكية على سيادة العالم، كما يقول الأستاذ عبدالرازق خشبة فى مقال قديم له عن الصين. قال لى صديق صينى يعمل فى الولايات المتحدة لقد نجحت القيادة الصينية منذ دينج تساو بينج فى أن تخلق لدى الصينيين روح التحدى كى نكون أقوياء فى مواجهة اليابان والأمريكان وحلفائهما؛ فأصبحنا نستيقظ مبكراً لعلمنا أن اليابانيين والأمريكان يستيقظون قبلنا كى يعملوا، وكان علينا أن ننافسهم وأن نتفوق عليهم. روح التحدى خلقت عند الصينيين الاستعداد للتضحية، حتى لا يكونوا عالة على غيرهم.
ثالثاً، جيش التنمية: كى تنقل روح الانضباط الموجودة فى المؤسسة العسكرية إلى المجتمع، احتاجت الصين إلى إعادة تربية المواطن الصينى على احترام قيم العمل الفردى والعمل الجماعى والنظام والاتحاد وروح الفريق والتكامل المؤسسى. ومن خلال المشروعات الصغيرة والقروض طويلة الأجل تحولت المنازل إلى ورش عمل صغيرة فى وقت يوجد فيه وكيل للتسويق والتنسيق، وبالتالى انخفض اعتماد الناس على العمل الحكومى وقلّت نسبة البطالة وازدادت معدّلات التنمية كجزء من قدرة الدولة على أن تستفيد من طاقات مواطنيها، وفقاً لخُطط ذكية، بما أدى فى النهاية إلى تخليص ربع سكان الصين من دوامة الفقر والتخلف، بل نجحت فى غزو العالم الخارجى باستثمارات صينية فى دول أجنبية، بما يخدم الاقتصاد الصينى.
رابعاً، الاستثمار الأجنبى فى المناطق الاقتصادية الخاصة والساحلية المفتوحة: القيادة الصينية أدركت مخاطر السياسة على الاقتصاد ومخاطر البيروقراطية على التنمية، فخلقت فضاءً جغرافياً واقتصادياً ومالياً وتجارياً مستقلاً سمّته المناطق الاقتصادية الخاصة كى تكون خارجة تماماً عن معوقات البيروقراطية التقليدية التى نعرف ما يشبهها فى مصر. ومنذ أن قرّرت الحكومة الصينية إجراء إصلاح النظام الاقتصادى فى عام 1978، وفى الوقت ذاته، بدأت اتخاذ سياسة الانفتاح على الخارج بصورة مخططة وعلى مراحل. ابتداءً من عام 1980 أنشأت الصين خمس مناطق اقتصادية خاصة على التوالى فى مدن شنتشن وتشوهاى وشانتو بمقاطعة قوانجدونج ومدينة شيامن بمقاطعة فوجيان ومقاطعة هاينان؛ وفى عام 1984 بدأت الصين انفتاح أربع عشرة مدينة ساحلية على الخارج، وهى داليان وتشينهوانجداو وتيانجين ويانتاى وتشينجداو وليانيونقانج ونانتونج وشانغهاى ونينجبو وونتشو وفوتشو وقوانجتشو وتشانجيانج وبيهاى؛ وبعد عام 1985 اتخذت الصين على التوالى دلتا نهر اليانجتسى ودلتا نهر تشوجيانج ومنطقة ميننان المثلثية وشبه جزيرة شاندونج وشبه جزيرة لياودونج ومقاطعة خبى ومنطقة قوانجسى ذاتية الحكم لقومية تشوانج، كمناطق مفتوحة اقتصادية، الأمر الذى شكّل حزاماً اقتصادياً ساحلياً مفتوحاً، وفى عام 1990 قرّرت حكومة الصين تنمية وانفتاح منطقة بودونج الجديدة بمدينة شانغهاى، وزيادة فتح مجموعة جديدة من المدن بضفتى نهر اليانجتسى، حيث تُشكل حزام الانفتاح بحوض نهر اليانجتسى، على أساس منطقة بودونج الجديدة. ومنذ عام 1992 اتخذت الحكومة الصينية سلسلة من القرارات حول فتح مجموعة من المدن الحدودية وفتح المزيد من حاضرات المقاطعات والمناطق ذاتية الحكم؛ وأنشأت فى بعض المدن الكبيرة والمتوسطة الحجم خمس عشرة منطقة تجارة حرة وتسعاً وأربعين منطقة للتنمية الاقتصادية والتكنولوجية على مستوى الدولة، وثلاثاً وخمسين منطقة تنمية صناعية عالية وجديدة التكنولوجيا. وبذلك تم تشكيل وضع الانفتاح على الخارج بصورة شاملة وواسعة النطاق، وعلى مستويات مختلفة، وهو ما يجمع بين مناطق ساحلية وحوضية وحدودية ونائية. وبفضل تطبيق السياسات التفضيلية المختلفة لعبت، ولا تزال تلعب، هذه المناطق المفتوحة دوراً تعريفياً ومؤثراً فى تنمية الاقتصاد المتجه إلى الخارج ودفع التصدير وكسب العملة الصعبة واستيراد التكنولوجيا المتقدمة. هذه المحفزات الاقتصادية والهندسة الإدارية والتشريعية جعلت الاستثمار الأجنبى يُفضّل الصين على غيرها، فزاد الاستثمار الأجنبى وارتفع كذلك معدل الاستثمار المحلى الصينى بالغاً 39% من الناتج المحلى الصينى الإجمالى عام 1998.
خامساً، التعليم التدريبى: اكتشف الصينيون أنهم لا يحتاجون إلى عباقرة يفهمون فى كل حاجة وأى حاجة. وإنما هم بحاجة إلى من يجيد اللغة الصينية الأم ولغة أجنبية واحدة، والعشرات من المهارات الشخصية والعلمية والاقتصادية والتكنولوجية والقيم الإنسانية والاجتماعية، ثم كيفية استخدام المراجع المختلفة، سواء فى المكتبات أو على النت. وبعد هذا الحد الأدنى من التعليم الأساسى (الذى هو عندهم قريب من الإعدادية عندنا) يبدأون فى التخصُّص وداخل التخصُّص يتعلمون التفاصيل التى تعينهم عليه بما يخدم المجتمع الذى يعيشون فيه. التعليم عندهم ليس كائناً قائماً بذاته له أولويات مختلفة عن أولويات المجتمع، وإنما هو فى خدمة المجتمع. هو تعليم يُدرّب الشباب على المهارات التى يحتاجونها حين يصلون إلى سوق العمل. لا أعرف لماذا كان الاهتمام كبيراً من الإعلاميين المصريين فى رحلة الصين بالتسجيل مع المسئولين المصريين، كنت أتمنى أن نلتقى بالشعب الصينى أكثر؛ بالمدرس والطالب والمهندس وسائق التاكسى والفلاح. كان نفسى يعرف المصريون كيف يعمل الإنسان الصينى؟ كيف يتعلم؟ كيف يُضحى؟ كيف يبنى؟ كيف يتفاءل؟ كيف يعمل جماعياً من أجل هدف أسمى؟