بقلم : معتز بالله عبد الفتاح
هذا واحد من أعقد الموضوعات التى واجهتها دراسات الاقتصاد السياسى للتنمية. وككل قضية معقدة هناك من اعتبر أن الديمقراطية (حتى فى حدودها الدنيا) شرط للتنمية الاقتصادية، وهناك من رأى العكس، وهناك من اعتبر أن هناك علاقة مركبة ومعقدة وجدلية (فيها أخذ ورد) بين الموضوعين.
كتب حاتم محسن دراسة جيدة راجع فيها ما تقوله المدارس المختلفة فى هذا المقام. ولضيق المساحة فسأركز على الرؤية التى تتبناها معظم دول الجنوب وعلى رأسها النمور الآسيوية والانتقادات التى توجه لها.
يقول «حاتم»: إن هذه النزعة الطبيعية للنظام الديمقراطى فى التجزئة والانتشار وتقسيم السلطة بين مختلف أصحاب المصالح بمختلف المستويات، سواء ضمن الدولة أو بين مجموعة اللاعبين، ومن ثم جعل عملية صنع القرارات أكثر استهلاكاً للوقت، كل ذلك قاد العديد من المحللين للجدال بأن الأنظمة السلطوية فى العالم النامى ربما أفضل من الديمقراطية لتعزيز التنمية الاقتصادية.
جوهر هذه الحجة أن التنمية تتطلب حكومة قوية مركزية عالية الاستقلال خاصة عندما تحتاج الدول الفقيرة أن تلحق بمسيرة البناء والتطوير، وأن السياسات الديمقراطية هى ببساطة شديدة الفوضى ولا يمكن التنبؤ بها لتوفير مثل هذا البناء. فى النظام السلطوى، يتمتع اللاعبون فى الدولة بأفق زمنى طويل طالما لا يحتاجون للقلق على السياسة قصيرة الأجل التى تنشأ من الحلقات الانتخابية.
تجربة نمور آسيا (كوريا، تايوان، سنغافورة، هونج كونج) تثبت فرضية أن الأنظمة السلطوية هى أكثر فعالية من الأنظمة الديمقراطية فى تسريع التنمية الاقتصادية، حيث إن الدولة هى التى تقود النمو الاقتصادى السريع والتحول السوسيواقتصادى بدءاً من الستينات وحتى التسعينات من القرن الماضى. مؤخراً أضيفت الصين وفيتنام لدعم هذا الدليل.
من جهة أخرى، ليس من المؤكد أن الحاكم السلطوى سيكون دائماً مهتماً بلعب دور إيجابى فى عملية التنمية. على العكس تماماً، الأمثلة التاريخية عن الدول السلطوية المضادة للتنمية فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية وشرق أوروبا والاتحاد السوفيتى السابق كانت غزيرة. فى الحقيقة، من الانتقادات لمدرسة أفكار (التنمية أولاً، والديمقراطية ثانياً)، أنها تثق بالدليل التجريبى الذى هو محدود جداً وانتقائى بشكل كبير. بمعنى أن المراهنة على فاعلية تنموية كبيرة لهذه الأنظمة يتضمن رهاناً خطيراً، وأنه لا يمكن التحقق منها نظرياً كون الغايات تبرر الوسائل. كذلك، يمكن أيضاً إقامة الحجة على أن العديد من الدول السلطوية، المركزية، ذات الاستقلالية العالية فى صنع القرار لعبت دوراً كبيراً فى تعميق سلسلة من الكوارث الاقتصادية، وأن مثل هذه الكوارث كانت إما أقل عمقاً أو حتى يمكن تجنبها لو كانت هناك آلية ديمقراطية فعالة لإبقاء السلطة التنفيذية تحت المراقبة. هذا بالتأكيد ينطبق على أزمة بيسو المكسيك عام 1994 التى كانت من أعمق الكوارث فى المكسيك والمنطقة.
وكما لاحظنا أعلاه، فإن الموجة الثالثة من الدمقرطة فى العالم النامى تؤكد الاعتقاد بعدم وجود شروط مسبقة هيكلية لظهور الديمقراطية. من جهة أخرى، هناك فقط عدد محدود من الدول باشرت التحول الديمقراطى ونجحت فى تأسيس أنظمة ديمقراطية متماسكة رصينة. مقابل هذه الخلفية، العديد من المحللين توصلوا إلى إجماع بأن العوامل الهيكلية -مثل الشروط المؤسسية والاجتماعية والميراث الثقافى- ربما لها تأثير مهم على نجاح العملية الديمقراطية. هم يقولون، مع القليل من الاستثناءات (الهند وكوستاريكا)، فإن جميع الديمقراطيات التى يمكن اعتبارها متماسكة هى ثرية. فوق كل ذلك، التماسك الديمقراطى يتطلب تطوير ثقافة سياسية ديمقراطية فيها جميع اللاعبين السياسيين الرئيسيين (سواء النخب أو الجماهير)، الأحزاب، جماعات المصالح المنظمة، المؤسسات والقوى تقبل بالرؤية بأن الديمقراطية هى (اللعبة الوحيدة فى المدينة). بكلمة أخرى، العملية الديمقراطية هى الوسيلة الشرعية الوحيدة للحصول على السلطة. لا بد من الاعتراف بأن بناء وتقوية مثل هذا البناء السياسى الديمقراطى ملزم بأن يأخذ وقتاً طويلاً، وهذا هو التحدى الرئيسى الذى تواجهه الأنظمة اليوم.
فى الحقيقة، أن تأسيس ارتباط سببى بين التنمية وديمقراطية دائمة يشير إلى أن بعض رؤى نظرية التحديث ربما هى أكثر فائدة. نظرية التحديث تفترض أن مستويات عالية من التطور الاقتصادى يساهم فى استقرار الديمقراطية حالما تتأسس لأنها تُضعف الاستقطاب عبر تخفيف الصراع الطبقى وتكريس عدم التطرف فى الصراع السياسى. بما أن زيادة مستويات التنمية يقلل من حجم اللامساواة، فإن الصراعات التوزيعية تصبح أقل اهتماماً، والرؤى لتطوير السياسة بين الناس تصبح أكثر تدرجاً.
فى دراسة طموحة ومثيرة للجدل تنظر فى العلاقة السببية بين الديمقراطية والتنمية واتجاه هذه العلاقة السببية فى 135 دولة (بما فيها الديمقراطيات القائمة والدول التى فى طريقها للديمقراطية) بين عام 1950 و1990 وجد Adam prizeworsk وزملاؤه (2000) أنه بينما المؤسسات السياسية مهمة فعلاً، فإن نوع النظام ليس له تأثير مهم على النمو الاقتصادى للدول أو على الدخل القومى. طبقاً للمؤلفين، فيما إذا كانت الديمقراطية تعزز أو تكبح التنمية يبقى سؤال مفتوح، ونتائج العلاقة بين نوع النظام والتنمية الاقتصادية يبقى بلا حل. الدرس الرئيسى من هذه التحليلات ربما أن مختلف الأنظمة السياسية قادرة على تطبيق سياسات متشابهة، وأنه ربما لهذا السبب يصبح من المفيد جداً النظر إلى أنواع الترتيبات المؤسسية التى هى قيد العمل (مثل نظام الحزبين مقابل نظام تعدد الأحزاب) واستراتيجيات تطوير الحكومة، بدلاً من نوع النظام السياسى بذاته. بعض الأدب الحديث قام باستطلاع آخر لمعرفة تأثير التحول الديمقراطى على الأهداف التنموية الأخرى، كالنمو والفقر واللامساواة والفساد، فكانت هذه التحليلات توصلت إلى أن التأثيرات الإيجابية المنسابة من الدمقرطة لمجالات أخرى من الحكومة والتنمية هى ليست أوتوماتيكية وغير مؤكدة، أحيانا تكون سلبية كما فى حالة الفساد. إذا كان هذا صحيحاً، أى وجود تأثيرات سلبية، وأن الديمقراطيات لا تأتى دائماً بثمار المساواة وبناء قدرة الدولة، عندئذ لا بد من توجيه مزيد من الانتباه إلى السياسة والتطبيق. من التحديات الرئيسية للمانحين أن يكونوا على اطلاع تام بحقيقة أنهم عندما يختارون الكيفية التى يساعدون بها الديمقراطية وتعزيز التنمية، هم أيضاً يحتاجون الأخذ بالاعتبار كيف أن نشاطاتهم فى مجال معين تؤثر على المجالات الأخرى، وكيف أن هذه بدورها تؤثر أو تتأثر بجهود بناء الدولة الواسعة. وقصارى القول، إن أى استنتاجات للعلاقة بين الديمقراطية والتنمية ليست نهائية، هناك مختلف الحجج التى يمكن استخدامها لدعم كل من الرؤيتين: أن المؤسسات الديمقراطية تلعب دوراً حاسماً فى تعزيز التنمية والرؤية المضادة أن الأنظمة الديكتاتورية ربما أكثر فاعلية فى هذا المسعى. خاصة الدول الفقيرة التى تحتاج للحاق بسرعة.
النقاش يبقى بعيداً عن التسوية. الأدب الحالى الذى يسعى لتحديد العلاقة بين الديمقراطية والتنمية يبقى غير ثابت. وهو ما يشير إلى مدى تعقيد العلاقة بين هاتين القوتين. كل دراسة تعطى دليلاً لإثبات حجتها من حيث صلة النظام الديمقراطى أو النظام السلطوى بالتنمية، فكل حجة تُواجه بحجة مضادة.