معتز بالله عبد الفتاح
كتبت عدة مقالات فى 2008 و2009م عن أسباب تخلف المسلمين، وشاء قدرى أن أجد من يتذكرها ويناقشنى فيها ويعتقد أننا الآن بحاجة إلى أن نعود إليها بشىء من الدراسة والتمحيص عسى أن تفيدنا فى هذه المرحلة الحرجة التى نعيشها.
على سبيل الإجمال ألخص المشهد بالقول إن هناك عدة محطات تاريخية شهدت تراجع الحضارة الإسلامية عن مكانتها الرائدة التى شغلتها فى بداياتها. ودون الإغراق فى المقدمات فسأشير إلى العناوين الرئيسية ثم أنفذ منها إلى واقعنا المعاصر.
أولى هذه المحطات كانت تراجع الخلافة وسيادة الملك العضوض، بعبارة أخرى تراجع عمر وسيادة معاوية.
وثانية هذه المحطات هى تراجع العالم الناقد لصالح عالم التقية ، (أى تراجع ابن حنبل وتقدم ابن معين). وثالثة هذه المحطات تراجع العقل وازدهار النقل، أى تراجع فكر ابن رشد وازدهار فكر الغزالى. ورابع هذه المحطات هى تراجع شرعية العدل لصالح شرعية القوة. وخامس هذه المحطات هى تراجع الابتكارات والكشوف العلمية والتحول إلى مجتمع الدعة والسكون. وسادس هذه المحطات هى العزلة العثمانية والقابلية للاستعمار. وسابع هذه المحطات هى أخطاء ما بعد الاستقلال، ثم ثامناً أخطاء ما بعد الثورات العربية.
وفى ما يلى تفصيل ما سبق إجماله.
أولاً، تراجع الخلافة وسيادة الملك العضوض، تراجع عمر وسيادة معاوية:
لا شك أن منطق تداول الحكم على أساس من الوراثة عكس ما عمل له وعليه السابقون من الخلفاء كان نقطة التراجع الأولى فى دولة الإسلام بحكم أنها نقلت موقع آحاد الناس من فاعلين سياسيين يشاركون فى أمر الحكم عن طريق البيعة من ناحية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من ناحية إلى أخرى إلى رعايا لهم الأمان ما أمن الحكام مكرهم. ومن هنا كانت المقولة الشائعة لمعاوية: «لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا». وقد سارت منهجاً التزمه اللاحقون. وقد انتزعت الدولة الأموية من الفقهاء المسلمين آنذاك السند الشرعى لطاعة ولى الأمر بغض النظر عن مدى شرعية وصوله للسلطة طالما أنه يلتزم شكلاً بقواعد الإسلام واحترامه لطقوسه مثل إقامة الصلاة والدعاء للخليفة على المنبر وتطبيق الحدود والتوسع فى جهاد الدفع أى رد أعداء الدولة الإسلامية عنها وجهاد الطلب أى التوسع فى حدود الدولة الإسلامية.
ورغم خطورة هذا التحول فى شكل نظام الدولة وأسس شرعية القائمين عليها، فإن أخطر ما فيه أنه كان مقدمة لتحول فى علاقة الدولة بالمجتمع، فبدلاً من منطق أن الحاكم خادم للمجتمع المسلم وموظف عام يقوم على شئونه باختيار المجتمع ورضاه، تحول المجتمع إلى تابع للدولة توجهه وتفرض عليه شروطها. فمن عمر الذى كان يقول: «إنما أرسل لكم الولاة خادمين ومعلمين» إلى معاوية الذى قال: «إن لم يكن هذا (أى ابنه يزيد) فهذا (أى السيف)».
مات عمر، ويجلس على عروش الحكم تلاميذ معاوية، رضى الله عنهما.
ثانياً، تراجع العالم الناقد لصالح عالم التقية، تراجع ابن حنبل وتقدم ابن معين:
لقد كانت فتنة خلق القرآن الكريم أكثر كثيراً من مجرد اختلاف فلسفى بشأن هل القرآن الكريم مخلوق كرد فعل لحوادث الدنيا، وبالتالى كان من الممكن نظرياً أن تتغير بعض آياته لو تصرف أبولهب على عكس ما تصرف مثلاً أم أنه قديم قدم الدهر وكأن الله خلقه أصلاً قبل خلق البشر ثم سيّر الأمور كى تستقيم مع القرآن الكريم. أقول هذا النقاش الفلسفى نفسه كان يمكن أن يمر مرور الكرام كما مر غيره لكنه تحول إلى علامة فاصلة فى تاريخ المسلمين من زاويتين على الأقل: فهو أولاً قد رسخ نمط السلطة القاهرة فى مواجهة عالم الدين المعارض. فكان تعذيب ابن حنبل على يد ثلاثة من خلفاء العباسيين درساً وعاه معظم علماء الدين فى عصر الفتنة وممن أتوا بعدها. وسار فى الإسلام نمطان: نمط شجاعة ابن حنبل المعذَّب بسبب صلابته فى الدفاع عما رآه الحق، وتقية يحيى بن معين الذى قال إن القرآن مخلوق حتى يريح نفسه من العذاب. ويذكر هنا أن يحيى بن معين، وهو بحق عالم كبير، دخل على الإمام أحمد (رحمه الله) وهو مريض فسلم عليه فلم يرد السلام، فما زال يعتذر متعللاً بقوله تعالى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}، فقلب أحمد وجهه على الجانب الآخر ناكراً على ابن معين ما فعل. ويبدو أن الكثير من علماء الدين فى الإسلام قد أخذوا عن ابن معين منطقه ونسوا الرسالة الأولى لكل نبى وهى أن يجاهد بالكلمة مهما كلفه الأمر، لأنه قائد رأى عام فى مجتمعه وقدوة لمن يسيرون خلفه. وهذا هو ما فعله موسى النبى مع فرعون المستبد، بل فعله كل نبى مع كل جبار، بل هو ما فعله فلاسفة عصر النهضة فى أوروبا مع حكامهم المستبدين، وكان بعض هؤلاء الفلاسفة ملحدين، وهو ما حاوله حديثاً نسّاك وعبّاد بورما حينما سار منهم عشرة آلاف حفاة فى الشوارع يقودون المجتمع وينشدون كلمة واحدة يكررونها بوعى وإصرار: «الديمقراطية.. الديمقراطية». أما فى حياتنا الإسلامية المعاصرة، فتكون كلمة الحق عالية ضد صغائر المواطن متى أخطأ ولا تتخطاه إلى كبائر الحكام متى وقعوا فى الخطيئة. مات فى الكثير من علمائنا ابن حنبل.. ويحيا بيننا يحيى بن معين.
وفى الغد أستكمل بقية المحطات.