هل هناك حتمية تاريخية فى أن تعيش بعض المجتمعات حالة التخلف أبداً؟ الإجابة لأ. ولكن هناك ما يسميه ديفيد لاندس مؤلف كتاب «ثروة وفقر الأمم» ثقافات مسمومة «toxic» تشل الناس المنتمين إليها، وتجعلهم غير مستعدين للنهضة أو التقدم، ويأتون من السلوكيات وردود الفعل ما يضرهم أكثر مما ينفعهم. وضرب أمثلة كثيرة عن شعوب أتيحت لها فرص التقدم لكنها لم تكن محظوظة بالقيادة التى تمكنها من الاستفادة من هذه الفرص. وانظر حولك لترى ما الذى انتهى إليه الحال فى ليبيا مع القذافى وبعد القذافى.
كما ذهب الاقتصادى اليابانى يوشيهارا كونيو (Yoshihara Kunio) إلى أن أحد أسباب التنمية الاقتصادية فى اليابان أنها كانت قائمة على قيم اجتماعية مؤهِّلة للتنمية، لأنها تضمنت: أولاً، الحرص على تحقيق المكسب المادى، ثانياً، العمل الجاد والعمل الجماعى، ثالثاً الادخار من أجل المستقبل، رابعاً، الإيمان بالعلم والاستثمار فى التعليم، خامساً، التضامن الاجتماعى والحرص على قيم المجتمع.
ويذهب جيفرى ساكس Jeffrey Sachs فى كتابه «نهاية الفقر» إلى أن: «حتى حين تسعى بعض الحكومات لأن تطور مجتمعاتها، فإن البيئة الثقافية من الممكن أن تكون عقبة فى طريق التنمية. إن القيم الدينية والثقافية يمكن أن تهمش دور المرأة الاقتصادى مثلاً، بما يترك نصف السكان بلا حقوق اقتصادية». ومن هنا تأتى أهمية القوانين التى تصحح أخطاء الثقافة العامة السائدة فى المجتمع وتجبر المجتمع على أن يتبنى قيم النهضة.
وقد درس جيدو تابلينى (Guido Tabellini) الأداء الاقتصادى فى عدد من المناطق فى أوروبا، ليجد أن قيم الثقة فى الآخرين، وثقة الإنسان فى أنه هو الذى يصنع مستقبله (وليس الحظ أو المحسوبية أو المكانة الاجتماعية للأسرة)، واحترام الآخرين هى القيم الأكثر قدرة على صناعة إنسان قادر على تحقيق أداء اقتصادى فى بعض المناطق مقارنة بغيرها داخل نفس الدولة أو دولة أخرى. ويستنتج من هذا أن دور المؤسسات والقانون وإن كان مهماً للغاية، ولكن القيم الثقافية لا تقل أهمية عن كل ذلك، حيث تكون القوانين والمؤسسات واحدة داخل الدولة نفسها، لكن القيم الثقافية تتغير من منطقة لأخرى ومعها يتغير الأداء الاقتصادى.
يقول لورنس هاريسون فى كتابه «التخلف حالة ذهنية» (وقد كان رئيساً لبعثات المعونة الأمريكية فى 5 من دول أمريكا اللاتينية) «إن ما يجعلنا قادرين على تحقيق التنمية هى مسألة ذهنية وعقلية فى الأساس ترتبط بقدرتنا على التخيل، والتنظير، وتفكيك المشاكل، والتجربة، والاختراع، والابتكار، وتعريف المصطلحات، وتنظيم الوقت، وإدارة الموارد، وحل الصراعات.. الموتور الحقيقى للتنمية هو قدرة الإنسان على الابتكار (human creative capacity) ومدى قبول المجتمع للأفكار الجديدة وهضمه لها والاستفادة منها».
وفى دراسة شهيرة قام بها عدد من الباحثين فى مطلع الألفية «ويمكن اختصار اسمها كالتالى: (CMRP)» وجد عدد من الباحثين أن المجتمعات التى تسيطر عليها الثقافة البروتستانتية (مثل أمريكا والدول الاسكندنافية)، واليهودية (إسرائيل وأماكن تجمع اليهود فى العالم)، والكونفوشوسية (مثل الصين والتجمعات الصينية فى العالم) تميل إلى العمل والاجتهاد والإنجاز والابتكار أكثر من المجتمعات التى تسيطر عليها الثقافات الكاثوليكية (إيطاليا وإسبانيا) والأرثوذوكسية (اليونان، صربيا) والإسلامية (انظر حولك). وطبعاً لكل حكم عام استثناءات، فلا شك أن الأداء الاقتصادى لشيلى والبرازيل (وهما كاثوليكيتان) كان أفضل فى آخر عشر سنوات من الأداء الاقتصادى للولايات المتحدة وإنجلترا (وهما بروتستانتيتان). ونفس الكلام يقال عن تركيا وماليزيا. ولكن مرة أخرى، الأمور بما يغلب عليها وليس باستثناءاتها. ومع ذلك تظل الاستثناءات مهمة لأنها مصدر دروس وخبرات مكتسبة يمكن البناء عليها، إن لم يكن فى الثقافة ما يمنع الاستفادة من تجارب الدول الأخرى. ولكن يضاف إلى ذلك أن نصوص أى دين بذاتها لا تصنع نهضة ولا تقوضها، وإنما هى توفر الأدوات والمفردات التى يمكن للعقل البشرى أن يحسن استخدامها فيصنع نهضة حقيقية أو يسىء استخدامها فيصنع نكسة محققة. آيات سورة الحديد فى القرآن الكريم تتحدث عن أن الله أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس. من المسلمين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأحسنوا العلم والتعلم وحولوا الحديد إلى أسباب الحضارة فى دول غير عربية، ومنهم، أمثالنا، ممن ناموا فى النور، ولعنوا الظلام وتقاذفوا بالطوب وأصبح هدف كل واحد منهم أن يمسك بقطعة حديد كى يضرب بها مخالفه فى التوجه الفكرى كما يفعل الأغبياء والحمقى فى كل زمان ومكان.
طيب عايز تقول إيه؟
النهضة الحقيقية تحتاج قيادة نهضة حقيقية وثقافة نهضة حقيقية. والقيادة الحقيقية بحاجة لأن تعطى القدوة فى تغيير الثقافة السائدة، وإلا فهى ليست قيادة وإنما فقط تسيّر شئون الدولة. والقيادة بحاجة لأن تصيغ القوانين التى تضمن هذه النهضة، وأن تجعل القضاء المستقل والنزيه الحكم عند وجود أى خلاف بشأن تفسير القانون.
النهضة لا تُصنع رغماً عن أنف المجتمع، النهضة تُصنع بإرادة المجتمع. هذا هو الحال، وهذا هو الحل: باختصار. لا مكان لمصر جديدة، إن لم يكن هناك إنسان مصرى جديد. أما الإنسان المصرى الذى نراه حولنا كسولاً متكاسلاً، فهو بحاجة لأن يدخل عقله رسائل اتصالية (سياسية، إعلامية، دينية، تربوية، ثقافية) تجعله يخلق ثوب التكاسل ويرتدى ثوب العمل.
هذا ما فعله تساو بينج فى الصين، وما فعله مهاتير محمد فى ماليزيا، وما فعله تشانج بارك هى فى كوريا الجنوبية، وما فعله لى كوان يو فى سنغافورة، وهذا ما فعله أردوغان فى تركيا، وهذا ما فعله لولا دا سيلفا فى البرازيل.
القضية ليست فى أن «محلب» ينام قليلاً وبقية الشعب لا يستيقظ. القضية فى أن الشعب يجد من أسباب الاجتهاد ودوافع العمل ما يجعله يختار أن يعمل كثيراً. تغيير «السيستم» وقواعد العمل فى الدولة أهم من النزول للشارع فى جولات ميدانية يومية. إصلاح أو تغيير موتور السيارة أهم من أن ننزل كلنا نزقها كل ما تقف بينا.
لا مكان لمصر جديدة، إن لم يكن هناك إنسان مصرى جديد.