بقلم:أسامة غريب
تثير تصريحات الرئيس الفرنسى ماكرون، فيما يخص الحرب الأوكرانية، دهشة المراقبين الذين يتابعون مجريات الأحداث منذ اندفعت روسيا فى غزوها للشرق الأوكرانى بفبراير 2022. فى البداية كان من الواضح رغبة باريس فى القيام بدور الوسيط القادر على التأثير وتليين مواقف الطرفين، وقد استندت هذه الأمنية إلى العلاقة التى ربطت بين ماكرون وبوتين، وتخللتها 21 مكالمة تليفونية أجراها الزعيمان منذ 14 ديسمبر 2021 إلى الآن، ويلاحظ أنها كانت مكالمات طويلة تتخطى الساعة، كدليل على أنها اتسمت بالتدفق واستعراض الأمور باستفاضة.
وربما يفسر هذا تصريحات ماكرون فى بدايات الحرب، عندما أكد فى يونيو 2022 على ضرورة عدم إذلال روسيا إذا أريدَ الوصول لنهاية عادلة لهذا الصراع، كذلك تشديد ماكرون فى ديسمبر 2022 على أهمية تقديم ضمانات أمنية لموسكو. طبعًا تواكبت هذه التصريحات مع تقديم مساعدات عسكرية فرنسية لأوكرانيا، مثل مدافع سيزار التى ساعدت الأوكرانيين كثيرًا، ومثل المدرعات التى كانت باريس أول طرف أوروبى يدفع بها لأوكرانيا، لكن مع ذلك استمر حُسن ظن ماكرون بالرئيس الروسى قائمًا.
لكن يبدو أن هذه العلاقة تغيرت فى الشهور الأخيرة، بعدما أحس الرئيس الفرنسى بأن بوتين كان يخدعه طول الوقت، وهو يتحدث عن السلام، بينما يضمر التوسع الذى يحمل مخاطر على القارة الأوروبية. لقد كان ماكرون- فيما نعتقد- يريد أن يكون صاحب التأثير الأكبر فى هذا الصراع، متجاوزًا الأمريكان الذين تتوجس منهم السياسة الفرنسية تاريخيًا، لكن فوجئ بأن الصديق بوتين يأبى أن يمنحه أى فرصة فى هذا الصدد، بل ويدفع به وبباقى الأطراف الأوروبية للانضواء تحت جناح واشنطن والانصياع للرؤية الأمريكية التى تتباين بين الجمهوريين والديمقراطيين ولا تمنح أوروبا فكرة لبناء مواقف على أرض ثابتة.
ربما يكون هذا وراء التشدد الفرنسى الأخير الذى ظهر فى تصريحات الساسة الفرنسيين، وقد حملت تهديدات بالتصعيد ضد روسيا ودعوة الحلفاء للتفكير فى إرسال قوات برية.
لقد بدت تصريحات ماكرون، التى استهان فيها بالروس، شديدة الغرابة، فهذه هى المرة الأولى التى يستخدم فيها أساليب الهجاء السياسى وهو يقول إن روسيا هى دولة متوسطة معها سلاح نووى، ولكنها ليست دولة عظمى، مستشهدًا بأن الناتج الإجمالى لألمانيا وفرنسا معًا يفوق مثيله فى روسيا.
لقد اعتدنا منذ اندلعت هذه الحرب أن نستمع إلى مثل هذه التصريحات من ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسى، الذى دأب على إطلاق التهديدات النووية، محاولًا إثارة فزع الأوروبيين، وكانت تصريحاته دائمًا موضع استهجان دولى بسبب تهورها ورعونتها، بينما حافظ بوتين طول الوقت على اتزان تصريحاته التى تستعرض القوة الروسية الماحقة.
لا شك أن ماكرون غاضب جدًا حتى يصل لهذه الحالة التى يجتمع فيها مع المستشار الألمانى والرئيس البولندى، فى محاولة لتسويق فكرته عن إمكانية الدفع بقوات أوروبية فى الصراع. فهل هى رغبة حقيقية فى الانخراط بالحرب أم وراءها دوافع فى إحراز نقاط فى الصراع السياسى بالداخل الفرنسى؟.