عريب الرنتاوي
المؤكد أن فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، تعلمت جيداً الدروس المستفادة من عمليتي “الرصاص المصبوب” و”عامود الدخان” ... هذه المرة، يبدو “بنك الأهداف” الإسرائيلي شديد التواضع، ولتعويض هذا النقص، لم تجد إسرائيل سوى منازل الفلسطينيين، ومن بينهم قادة وكوادر في الجناح العسكري لحماس كأهداف لسلاحها الجوي “الفتّاك”... عشرات المنازل تم تدميرها، كثير منها على رؤوس ساكنيها، في غضون أيام قلائل... يُظهر ذلك أن حماس نجحت على ما يبدو في بناء منظومة “تحت أرضية” آمنة لقادتها وكوادها وسلاحها ومستودعات ذخيرتها وربما لمعامل انتاجها ... وأنها (حماس) نجحت أيضاً على ما يبدو، في تخليص قطاع غزة، من شبكة واسعة من العملاء والمخبرين، نجحت إسرائيل طوال أربعة عقود من الاحتلال في بنائها.
ربما تكون هذه واحدة من أهم مفاجآت “الحرب الثالثة” على غزة ... إسرائيل باتت مقتنعة بعجزها عن استرداد قوة الردع أو ضرب العامود العسكري الفقري لحماس من الجو، سيما بعد تردد إسرائيل عن استخدام مروحياتها الحربية خشية إسقاطها بصواريخ “ستريللا” التي يقال، إن حماس باتت تمتلكها، وهذا يدفع بقوة نحو خيار “الضربة البرية” ... لكن هذا الخيار تعترضه جملة من المحاذير والعوائق، أحدها أنه ينطوي على مقامرة غير محسوبة لجهة الخسائر البشرية في صفوف الجيش، سيما وأن إسرائيل باتت مقتنعة أيضاً بأن حماس نجحت في بناء شبكة واسعة من الأنفاق والمواقع الدفاعية والهجومية على امتداد القطاع ونقاط التماس مع الاحتلال.
وفي الحديث عن الضربة البرية، يتكشف الجدل في إسرائيل عن جملة اتجاهات متضاربة: أحدها يسعى في تفادي الضربة خشية ردات الأفعال والنتائج غير المحسوبة، ثانيها، يقترح اختراقاً برياً يلامس حدود “الكثافة السكانية” الفلسطينية، ولا يخترقها، والهدف، إسكات الصواريخ وتدمير منصات إطلاقها، فضلاَ عن الأبعاد “المعنوية” لهكذا اختراقات، وثالثها يتحدث عن إعادة احتلال القطاع، لتنظيفه نهائياً من حماس، وتسليمه لجهات فلسطينية قادرة على إحكام قبضة “التنسيق الأمني” ... من بين هذه السيناريوهات الثلاثة، نرى أن أكثرها ترجيحاً، هو حدوث اختراقات برية لا ترقى إلى حد إعادة احتلال القطاع.
في المقابل، ثمة ما يثير الاهتمام في ميدانيات “الحرب الثالثة” المستمرة على غزة ... حماس، كما يقول البعض، حرقت جميع “مفاجآتها” دفعة واحدة، وفي الأيام، أو بالأحرى في الساعات الأولى للقتال ... ضربت في العمق الإسرائيلي وكشفت عن سلالات جديدة من الصواريخ التي تمتلكها، فجّرت أنفاق “هجومية” للوصول إلى مواقع عسكرية متقدمة، وتسللت عبر البحر لضرب قواعد إسرائيلية ... إسرائيل تعترف بهذه “المفاجآت” بيد أنها تعتقد أنها أحبطتها جميعاً، واستوعبت مفاعليها تماماً، بدلالة غياب الخسائر في صفوف الجيش، وتواضعها الشديد في صفوف الجبهة الداخلية.
في تفسير هذا التطور في أداء حماس الميداني، ثمة آراء وقراءات عديدة ... بعض المحللين الإسرائيليين يعتقد أن إقدام حماس على “حرق” مفاجآتها” دفعة واحدة، إنما ينم عن قلق الحركة وعدم ثقتها بقدرتها على خوض معركة طويلة مع إسرائيل، في ظل انكشاف سياسي عربي وإقليمي، لهذا لجأت الحركة إلى تكتيك “الضغط على الجبهة الداخلية” بقوة على أمل التسريع في اتخاذ قرار وقف العملية العسكرية ... لكن آخرين ما زالوا يعتقدون بأن في جعبة الحركة مفاجآت إضافية، قد تظهر في الأيام القليلة القادمة، من بينها صواريخ مضادة للطائرات وطائرات من دون طيّار، وربما غيرها ... هذا الأمر يصعب التأكد أو الجزم به، لكن المؤكد أن تكتيك حماس العسكري هذه المرة، اختلف عن المرات السابقة.
وثمة سؤال ما زال يدور في الأذهان، ويتصل بقدرة الجانبين على الاستمرار في خوض معركة طويلة الأمد نسبياً، قد تمتد لأسابيع عدة قادمة ... عسكرياً لا مشكلة لدى إسرائيل في هذا المضمار، لكن جبهتها الداخلية الحساسة للملاجئ وصافرات الإنذار وحالة التأهب المستمرة، ستضغط عليها بلا شك، للوصول إلى “تهدئة” توقف صواريخ المقاومة الفلسطينية... الجواب عن هذا السؤال، ستقرره كثافة الصواريخ التي يمكن إطلاقها من القطاع ونوعيتها.
أما السؤال عن “مخزون” حماس والمقاومة الفلسطينية من الصواريخ، خصوصاً بعيدة المدى، وذات الرؤوس الحربية المؤثرة نسبياً، دقيقة الإصابة إلى حد ما، فإنه يستمد مشروعيته من حقيقة أن علاقات حماس مع داعميها في هذا المجال، متأزمة منذ أعوام ثلاثة، وأنفاق غزة، جرى تدمير أكثر من 90 بالمائة منها في العام الأخير ... حماس تقول، وهذا طبيعي، أنها لم تستهلك شيئاً يذكر من مخزونها، خبراء إسرائيل العسكريون يقولون شيئاً آخر ... الأيام المقبلة، ستجيب عن هذا السؤال.
أسوأ ما في هذه الحرب، بالنسبة للمتحاربين، وبالأخص بالنسبة للأهلين من أبناء القطاع المحاصر، أن رحاها تدور بضراوة، من دون أن تلوح في الأفق بوادر “عملية سياسية” جدية، بهدف الوصول إلى “تهدئة” جديدة، حتى الآن، كل ما هو مطروح في الأفق، مواقف وتصريحات وإعلانات نوايا، أما التحرك الجدي فلم يبدأ بعد، ولا ندري متى سيبدأ... لكن المؤكد أنه سيبدأ، خصوصاً إن ارتفعت بشكل ملحوظ أعداد القتلى والضحايا المدنيين من الجانبين... والمؤكد أيضاَ، أو بالأحرى الأكثر تأكيداً، أن كل طرف يريد اتفاقاً يمكنه من الادعاء بتحقيق “نصر مؤزّر”، ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية إسرائيلياً، سيتعين على حكومة نتنياهو الاستعداد لحرب طويلة نسبياً، أما بالنسبة لحماس، فإن من مصلحتها وقف هذا العدوان بأسرع وقت ممكن، حتى وإن بشروط هدنة 2012، لإن إطالة أمد الحرب، قد لا يصب في صالح الحركة وبقية فصائل المقاومة، وربما لهذا السبب تتعالى الأصوات المطالبة بتدخل مصري عاجل، وتتالى الاتهامات للمتقاعسين بالتآمر.