الديمقراطية بين «التوافق» و«الديجيتال»

الديمقراطية بين «التوافق» و«الديجيتال»

الديمقراطية بين «التوافق» و«الديجيتال»

 عمان اليوم -

الديمقراطية بين «التوافق» و«الديجيتال»

عريب الرنتاوي

“الديمقراطية التوافقية” مفهوم حديث نسبياً في الفكر السياسي العربي، مع أن دولاً عربية اختبرته منذ أكثر من ربع قرن (لبنان مثلاً) وتناولته أقلام عدد من الباحثين والأكاديميين ... أما عالمياً، فقد تصدرت كندا وبلجيكا واسبانيا لائحة الدول التي لها تجربة مستقرة على هذا الصعيد.
ظاهرياً، ينطوي المفهوم على تناقض بنيوي، فكيف تكون ديمقراطيةً إذا كان “التوافق” وليس الأغلبية والأقلية، هو قاعدتها ... وما قيمة صناديق الاقتراع إن فقدت قدرتها على تفويض الأغلبية بالحكم والأقلية بالمعارضة ... وهذا أمر صحيح، فالأساس في “اللعبة الديمقراطية” أن الشعب يمنح ثقته ويحجبها أو يجددها، لمن يريد من أحزاب وقادة بلاده، كل أربع أو خمس سنوات مرة، بعد أن يتوفر على فرصة كاملة لتقييم الأداء وتحديد الموقف.
إن هذا القول الصحيح في جوهره، ليس صحيحاً على إطلاقه، ففي المجتمعات المنقسمة إثنياً وطائفياً وقومياً ومذهبياً، والخارجة لتوها من حروب أو انقسامات أهلية، أو تلك التي لم تختبر الديمقراطية بعد، ولم تتكرس لديها تقاليد وثقافة وممارسة ديمقراطية راسخة، يصعب الأخذ بـ “الديمقراطية الرقمية” أو “الديجتال”، فلا بد من مسار انتقالي، يقوم على التدرج والتوافق والسلمية، لكي يكون مثمراً وآمناً وسائراً على الطريق القويم.
بعد عقود من الركود والاستنقاع، في ظل أنظمة مستبدة وفاسدة، لم تختبر خلالها شعوبنا الحياة الديمقراطية بمختلف مفرداتها وتقاليدها، وفي مجتمعات متعددة كالمجتمعات العربية، المشرقية بخاصة، يصعب الحديث عن ديمقراطية ديجتال، ويصبح التوافق “كلمة السر”، أو مفتاح الانتقال التدريجي الآمن نحو الديمقراطية، ولقد رأينا كيف أفضى القفز إلى سياسات الإلغاء والإقصاء، و”شيطنة” الآخر ونبذ وجوده، إلى إشعال حرائق لم تنطفىء بعد، في العديد من دول المنطقة، ورأينا حالة عدم الاستقرار تعصف بدول ومجتمعات أخرى.
و”الديمقراطية التوافقية” لا يمكن أن يكون لها أن تتخذ شكلاً واحداً أو صيغة مجردة تصلح لكل زمان ومكان ... فمنها ما يجري النص على قواعده في الدساتير والمواثيق، ومنها ما يجري التفاهم بشأن بعض محدداته وضوابطه ... وهي فوق هذا وذاك، تتوزع على مستويات عدة، بعضها يمنح حق النقض لكل مكون من المكونات، وبعضها يشترط أغلبية وازنة (الثلثين أو أحياناً أكثر) في بعض القضايا الجوهرية كإقرار الدستور أو بعض التشريعات الهامة، ومنها ما يتخذ شكله ومضمنه من “الحوار المستدام” الذي تجريه المكونات، بملء إرادتها وكامل وعيها.
والديمقراطية التوافقية، لا تلجأ إليها المجتمعات عادة، طائعة، بل مرغمة، وهي بذلك تسعى في درء الضرر، قبل أن تفكر في جلب المنفعة ... مؤمنة أن طريق التوافق المديد والمرير، سيظل أفضل وأقل كلفة، وربما أسرع، من “الديمقراطية الرقمية، العددية”، ولهذا نجد أن معظم الدول التي اختبرت التجربة بنجاح، أمكن لها إما تفادي الانزلاق في اتون الفوضى، أو الخروج منه بخسائر أقل، أو وضع حد لمسلسل التقاتل والتذابح الذي لا ينتهي.
ولهذا توصف “الديمقراطية التوافقية” بأنها مسار انتقالي، غير دائم، لكنه يطول ويقصر، يتقدم ويتراجع، وفقاً للسياق الخاص والشروط المتعيّنة في كل بلد من البلدان ... هو تدبير انتقالي تعتمده الشعوب والمجتمعات التي تقرر الالتحاق بركب الحضارة والمدنية بقدر أقل من الخسائر ... وهي لعبة “رابح – رابح” بديلاً عن لعبة “الخيار الصفري”.
في المؤتمر الذي نظمه مركز القدس لدراسة هذا العنوان في بيروت قبل أيام، وبمشاركة نخبة وازنة من قادة الرأي والأحزاب في عشر دول عربية، بدا المفهوم ضبابياً في البدء، بل ومثيراً للجدل والخلاف ... لكن استعراض تجارب الدول العشر، وما صاحبها من نجاحات وبالأخص من إخفاقات، أنتج فهماً أعمق وأدق لهذا المفهوم، وخلق قدراً أعلى وأفضل، من التوافق على قواعده الرئيسة.
تونس تقدم النموذج الأنجح للديمقراطية التوافقية، المغرب قطع شوطاً محترماً على هذا الطريق ... لبنان أوقف حربه الأهلية على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” وأسس لنظام توافقي، نقطة ضعفه الرئيسة، أنه طوائفي، قائم على المحاصصة، مع أن الديمقراطية التوافقية، لا تعني بالضرورة انزلاقاً لنظام المحاصصة بل لعل غياب هذه النظام هو شرط نجاح ديمقراطية التوافق وضمانتها.
أحياناً، وفي بعض الديمقراطية الناشئة أو المستقرة، تتدخل صناديق الاقتراع، في إجبار الفعاليات والقيادات السياسية على انتهاج طريق الديمقراطية التوافقية ... فلا تعطي غالبية واضحة لأي منها، ما يضطرها للبحث عن تفاهمات ومشتركات مع الأحزاب الأخرى (الانتخابات التركية الأخيرة مثالاً)، فالشعوب حتى وهي تُظهر قدراً من الرضى والارتياح لأداء فريق سياسي – حزبي معيّن، تخشى على “ديمقراطيتها” من تفرد حزب بالسلطة وتحكمه بالفترة طويلة نسبياً من الوقف، فتأخذ في توزيع أصواتها ذات اليمن وذات الشمال، بما يسهم في شق طريق إجباري نحو “ديمقراطية توافقية”.
طريق العرب للانتقال إلى الديمقراطية، هو طريق التوافق والتدرج والسلمية ... وبدون ذلك، فإن سياسات القفز إلى المجاهيل والمغاليق، هي أقصر الطرق للخراب والاحتراب.

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الديمقراطية بين «التوافق» و«الديجيتال» الديمقراطية بين «التوافق» و«الديجيتال»



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 19:30 2020 الخميس ,28 أيار / مايو

ينعشك هذا اليوم ويجعلك مقبلاً على الحياة

GMT 09:44 2020 الجمعة ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعه 30 أكتوبر / تشرين الأول لبرج الجدي

GMT 23:57 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

ينعشك هذا اليوم ويجعلك مقبلاً على الحياة

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab