عريب الرنتاوي
تحدّث إسرائيليون وأمريكيون عن الحاجة لـ “نزع سلاح المقاومة” في غزة، بوصفه شرطاً لضمان هدنة مستدامة يرافقها رفع الحصار وفتح المعابر وإعادة الإعمار، ومن ضمن ذلك، إنشاء مطار وميناء للقطاع، ورفع مستوى معيشة السكان، إلى غير ما هنالك من أفكار تندرج في سياق “نظرية السلام الاقتصادي”.
المسألة ليست مطروحة الآن على بساط مفاوضات “التهدئة” الجارية حالياً بين عواصم وموفدين عدة ... بيد أنها بلا شك، مطروحة بقوة في “خلفية المشهد”، سيما بعد أن وصل المجتمع الدولي إلى قناعة راسخة بضرورة إغلاق ملف غزة وحروبها الدورية والدموية المتكررة، بيد أنها بلا شك، موضوع بحث و”مفاتحات” تجري في القنوات الموازية، وتعكف على دراستها مراكز استخبارات ودراسات، والأرجح أن الأمر سيوضع على نارٍ ساخنة، ما أن تضع الحرب الثالثة على غزة، أوزارها.
بعض دوائر الغرب النافذة، أخذ يضيق ذرعاً بحروب إسرائيل المتكررة على القطاع، مثلما أخذ يضيق ذرعاً بالحصار الجائر وغير الإنساني المضروب على قطاع غزة، تساوره الخشية والشكوك في أن تكون “داعش” وليس عباس وسلطته الوطنية، هو البديل المرجح لحماس إن انهارت سلطتها في غزة في حال اشتدت أطواق الحرب والحصار المضروبة عليها ... لذلك رأينا واشنطن ومن خلفها الغرب، يتحركان من أجل الوصول إلى التهدئة الآن، على أن يتم التفكير بنزع السلاح لاحقا وعلى مراحل، أولها منع تجديده وتحديثه وإنتاجه وتهريبه... والمأمول هنا غربياً، أن تشترك أطراف عديدة في إتمام هذه المهمة، وعلى نحو متناغم ومتكامل ... يريدون لمصر أن تشدد سيطرتها وقبضها على سيناء وطرق التهريب التقليدية والأنفاق مع قطاع غزة ... ويريدون للسلطة الفلسطينية أن تكون رقيباً على المعابر والحدود، تمنع تدفق السلاح أو تهريبه أو حتى إنتاجه في “المعامل” الفلسطينية المتواضعة، أما بقية القصة، فمعروفة للجميع: إعادة انتاج نموذج “الانسان الفلسطيني الجديد” التي اختبروها بنجاح نسبي ظاهر في الضفة، ولكن على غزة هذه المرة، بإشراف السلطة ذاتها،ومن دون إغلاق الباب في وجه حماس، إن هي أرادت الانغماس في “التهدئة المستدامة” ومقتضياتها ومندرجاتها الاقتصادية والسياسية.
من هذه البوابة، يأتي الاهتمام الأمريكي بالتواصل الكثيف مع كل من الدوحة وأنقرة، العاصمتان الحليفتان لحماس فلسطين وإخوان المنطقة ... مثل هذا التواصل يستهدف أساساً إعادة “تأهيل حماس”، واشنطن لم تغادر حتى اللحظة مربع الرهان على جماعة الإخوان، ومعها مروحة واسعة من الدول الأوروبية، ولا بأس من التعامل مع الوجه الإخواني لحماس، إن هي قبلت رسمياً أو فعلياً الاندراج في سياق تهدئة مستدامة وعملت بوحي من ضرورة الحفاظ عليها والوفاء بالتزاماتها.
قبل السؤال عن موقف حماس من هذه الأفكار التي بدأت تتقافز على سطح التفكير “الغربي – العربي” يتعين السؤال عن موقف أقرب حليفتين للحركة: قطر وتركيا ... هاتان الدولتان تدعمان الحركة سياسياً ودبلوماسياً، ومالياً في الحالة القطرية بلا شك، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو ما الذي ستكون عليه مواقف هاتين الدولتين من مشروع يَعرِض على حماس دوراً رئيساً في رعاية “التهدئة طويلة الأمد”، وشراكة في حفظ “الأمن والنظام” في القطاع، فضلاً عن شراكة في البناء وإعادة الإعمار ومشاريع التنمية ... أحسب أن الوجه الإخواني من حماس هو أكثر ما يهم العاصمتين الحليفتين، وليس وجهها”المقاوم”، وهذه فرضية تحدثنا عنها قبل عامين، ونعيد الحديث عنها الآن، بعد أن فتحت حرب “الجرف الصامد” الباب أمام مقاربات جديدة لجرح غزة النازف والمفتوح... هنا، يتعين رصد بعض تصريحات قادة حماس في الدوحة، التي ذهبت إلى أعلى درجات المرونة السياسية، في الوقت الذي كانت فيه حرب إسرائيل على غزة، تبلغ أعلى درجات العنف والتطرف... كما يتعين رصد وتتبع ما إذا كانت هذه المرونة الناشئة، عميقة وأصيلة في خطاب هؤلاء، أم أنها “مُقترحة” من قبل الحلفاء في إطار سياسة “إعادة التأهيل” التي أشرنا إليها.
في المقابل، ليس الوجه الإخواني لحماس هو أكثر ما يهم دول محور آخر، محور “المقاومة والممانعة”، بل وجهها “المقاوم” على وجه الخصوص، فالمقاومة هو مدخل هذا الفريق للعب دور إقليمي متعاظم ... ولقد رأينا بعض أركان هذا المحور يتخلى عن تحفظاته السابقة حيال حماس، ويتناسى خلافاته معها في سوريا وحولها، ليعلن وقوفه الصريح، خلف مشروعها المقاوم، ويبدي الاستعداد لإعادة ملء مستودعاتها بالصواريخ والقذائف ولمدها بالمال والعتاد والتدريب ... هنا، يعوّل أركان هذا المحور على “تيار في حماس” أكثر من تعويلهم على حماس بمجملها... من هذه النقطة بالذات، ستتطاير القصص والروايات عن خلافات حماس الداخلية، خارج وداخل، كتائب ومكتب سياسي، إلى غير ما هنالك.
كيف سيكون موقف/ مواقف حماس من هذه المشاريع، وكيف ستتبلور مواقف السلطة منها، هل يحفظ الفلسطينيون وحدتهم ومصالحتهم ووفقاهم الوطني الذي تجلى بصورة جيدة نسبياً في سياق تطور الحرب الإسرائيلية الثالثة على غزة، أم أننا سنشهد عودة للانقسام بعد أن تصمت المدافع على جبهات غزة وحدودها؟ ...هل سينجح الفلسطينيون بالنأي بأنفسهم وشعبهم وقضيتهم على المحاور العربية والإقليمية المحتربة، أم أنهم سيدفعون مرة أخرى، أغلى الأثمان جراء التماهي مع هذه المحاور والانخراط فيها؟ ... هل ستنجح السلطة والمقاومة في تقديم نموذج جديد للعيش والتعايش وتقاسم الأدوار بينهما والتوفيق ما بين حسابات الأولى ومقتضيات الثانية؟ هل ستتجاور السلطة والمقاومة في قطاع غزة، أم أننا سنشهد معارك وحروب لحسم ازدواجية السلطة؟ ... هل ستصبح الحرب الإسرائيلية الثالثة على غزة، بداية مرحلة استراتيجية في الكفاح الوطني الفلسطيني المعاصر كما يريدها الشعب الفلسطيني وأصدقاؤه وحلفاؤه، أم أنها ستتحول إلى حرب أكتوبر “مصغرة”، كما يريدها بعض العرب على اختلاف محاورهم، لتحريك مهمة جون كيري وصولاً إلى “كامب ديفيد 2”؟ ... أسئلة وتساؤلات برسم مرحلة وقف إطلاق النار.