عريب الرنتاوي
مبكرة كانت، أم في موعدها المقرر، فإن أية انتخابات مقبلة في تركيا، ستأتي بحزب العدالة والتنمية وزعميه رجب طيب أردوغان، إلى سدة الحكم من جديد..السؤال: هل سيحافظ الحزب على "صعوده" الذي سجّله في آخر ثلاث انتخابات متعاقبة، أم أنه سيبدأ رحلة التراجع وفقدان الشعبية والنفوذ "المهيمن"؟..هل سيتمكن الحزب، من إعادة تشكيل الحكومة منفرداً، أم أنه سيكون مضطراً للبحث عن تحالفات وائتلافات مع أحزاب أخرى؟
والأهم من كل هذا وذاك، هل سيحقق الزعيم التركي حلمه في الانتقال إلى القصر الجمهوري، رئيساً مطلق الصلاحيات، بعد أن يكون قد فرّغ النظام السياسي التركي من مضمونه البرلماني، وأحاله إلى نظام رئاسي، يليق بصورة الرجل عن نفسه؟..هذا الحلم سكن أردوغان طويلاً وعميقاً، وكان أحد محركات البحث عن "صفقة" مع حزب السلام والديمقراطية (الكردي) لانتزاع أصواته المؤيدة لتعديل الدستور، نظير الشروع في معالجة الأزمة الكردية المفتوحة في تركيا، منذ سنوات وعقود طويلة.
في الجدل حول توصيف وتفسير ما يجري في تركيا، ثمة مروحة واسعة جداً من الآراء والتقديرات..بعضها يعيد إنتاج خطاب "الأزمة العامة للرأسمالية"، وبعضها ينحي باللائمة على الليبرالية الجديدة في تركيا، حليفة أردوغان وحزبه على حد وصفهم..بعضها يحصر السبب بالتدخل التركي الاستفزازي والمكلف في شؤون سوريا والعراق الداخلية..أما من جهة الحزب وزعامته، فالحديث ما زال يدور عن "سبعة إرهابين" و"مؤامرة خارجية وداخلية"، و"لصوص" و"مهمشون" و"عابثون".
بعض الأصوات المؤيدة للعدالة والتنمية ولأردوغان، لا تتردد في المجاهرة بالقول بأن ما تشهده المدن التركية، ليس سوى تعبيراً عن "أزمة المعارضة"، فالنظام ليس في أزمة، ومنجزاته أكبر من أن تُغطى بغربال، أو تحجبها سحب القنابل الدخانية التي غطّت سماء "تقسيم"...أما حديث التوقعات والتكهنات، فيراوح ما بين نظرية "زوبعة في فنجان" إلى سقوط العدالة والإسلام المتأمرك ونهاية "السلطان".
في ظني، أن أزمة تركيا كما تعكسها "الانتفاضة الشعبية" الواسعة في معظم المدن التركية، أنما تكمن في الأساس، في "انزياح" حزب العدالة والتنمية عن "طريقه القويم"..هذا الحزب، بدا في سنواته الثماني أو التسع الأول، مصراً على أنه ليس "حزباً إسلامياً"، وكان يميل لوصف نفسه بالحزب "المحافظ" "ذي المرجعية الإسلامية"، القيمية بالأساس..هذا الحزب، تعهد بحفظ "علمانية الدولة وديمقراطيتها" وصون التعددية وإنجاز "المعجزة الاقتصادية"..هذا الحزب، اتجه شرقاً وجنوباً، دون أن يقطع مع الشمال والغرب، واختط لنفسه ولتركيا سياسة "صفر مشاكل"..والأهم من وجهة النظر العربية الشعبية عموماً، أن هذا الحزب، ذهب بتركيا بعيداً عن الإملاءات "الأطلسية"، رفض السماح للقوات الأمريكية بالهجوم على العراق في العام 2003، واتخذ مواقف مؤيدة للفلسطينيين في مواجهة الغطرسة والعنصرية والعدوانية الإسرائيلية، وفتح أبواب أنقرة واسطنبول، لكل التيارات السياسية والفكرية في المنطقة من دون "فيتو"، وأقام علاقات متوازنة مع الطوائف والمذاهب والدول، سنة وشيعة، إيران والسعودية، فكان بذلك معقد آمال كثيرين في العالم العربي، وقدم تجربة تستحق "الدرس والتمحيص"، حتى لا نقول الاتِّباع والامتثال والمحاكاة.
"الربيع العربي"، داهم تركيا مثلما أخذنا جميعاً على حين غرة، فأحدث حالة من "فقدان الوزن والاتزان"..بدا لأنقرة أن هذا الربيع جاءها بـ"بفرصة تاريخية نادرة" لتزعم الإقليم، سيما وأن أنظمة وحكومات ما بعد الربيع، تشكلت في الأساس، من قوى إسلامية، لطالما يمم قادتها وجوههم شطر اسطنبول وأنقرة، بأكثر مما فعلوا شطر مكة والمدينة..ظنت أنقرة وزعيمها وحزبها الحاكم، أن الوقت قد أزف، للاضطلاع بدور إقليمي متعاظم، بل وقائد للدول والمجتمعات العربية، فانخرطت في مجريات الربيع كما لم يكن يظن أو يُقدّر.
إلى أن ضربت رياح الربيع العربي في قلب دمشق وحلب وحمص، بدا لأنقرة، أن هذه الفرصة قد تسقط على أبواب دمشق، وأن سوريا ستنهض كحاجز وسد، يحول دون إغلاق "دوائر النفوذ" التركي في العالم العربي، فدخلت إلى رمال المستنقع السوري، بأرجلها وأيديها، واتخذت من المواقف، كل ما ناقض أطروحات العدالة والتنمية التأسيسية في حقلي السياسة الداخلية والخارجية.
لقد تحولت "الفرصة" إلى "تحدٍ"..وشرع الحزب مستفيداً من نجاحاته الداخلية في تحجيم خصومه الداخليين، في "امتطاء صهوة" الانقسام المذهبي في المنطقة، ليظهر بمظهر حامي أهل السنة في العراق وسوريا ولبنان، مقامراً باستعداء شرائح وفئات ودول في المنطقة، مطيحاً بسياسة "صفر مشاكل"..ومن دون أن يحسب ألف حساب، لأثر هذا السياسة، ذات المنسوب المذهبي المرتفع، على الداخل التركي، فجازف باستعداء العلويين، الذين سيصبحون منذ الآن، مشكلة تركيا الداخلية الرئيسة الثانية، بعد المشكلة الكردية.
ظن أن النظام في دمشق "يعد أيامه الأخيرة"، ولمّا ملّ أردوغان وأوغلو من "العد"، كثّفا مساعيهما لتسريع إسقاطه، وباتت "الغاية تبرر الوسيلة"، أيقظا الروح الأطلسية لتركيا، بخلاف الحال في 2003، وفتحا الحدود لكل أجهزة الاستخبارات العالمية ولكل صنوف الجهاديين والتكفيريين والإرهابيين، فضلا عن المعارضات السورية بأشكالها ومرجعياتها المختلفة..ومرة أخرى، من دون أن يدرك هؤلاء حجم الارتدادات التي ستحدثها هذه السياسة على الداخل التركي، والأهم، سرعة حدوث ذلك التي فاقت كل تصور.
لا جديد عند الحديث عن "أزمة المعارضة التركية"، فهي معارضة مأزومة، ولولا ذلك لما أمكن لحزب أن يسجل كل هذا الانتصارات المتراكمة..لكن أحداث "تقسيم" وتداعياتها، تعكس فقط أزمة نظام العدالة والتنمية، أزمة خروج الحزب عن منهاجه وثوابته، والتي هي مشتقة من ثوابت تركيا الكمالية – الديمقراطية، السائرة على طريق عضوية الاتحاد الأوروبي..لقد سجل الحزب إخفاقاً مركباً في إدارة ملف "الربيع العربي"، فهو لم ينجح في تعميم نموذجه العلماني – الديمقراطي – التعددي على دول ومجتمعات الربيع العربي وحركاتها الإسلامية فحسب، بل واقترب كثيراً من خطابها وممارستها الأصولية – المذهبية، ودائماً تحت ضغط أحلام الزعامة الشخصية وهاجس "الحزب القائد/ الدولة القائدة" لمنطقة لن تعرف الوحدة والانسجام، لمائة عام قادمة.
نقلا عن موقع القدس للدراسات السياسية