عريب الرنتاوي
تتكشف مواقف كثير من الساسة والباحثين الأمريكيين من المسألة الفلسطينية، عن درجة كبيرة من “التناقض” و”الازدواج” ... فهم يكررون القول، ومن دون كلل أو ملل، بأن استخدام “العنف” لن يجلب للفلسطينيين أية مصلحة، بل سيبعدهم عن نيل حقوقهم الوطنية المشروعة، وهذا خطاب موجه بالأساس للفصائل التي ما زالت تؤيد المقاومة، وتمارس أشكالاً عنيفة منها، ومن خلالها إلى داعميها و”المتصالحين” معها، ومن بينهم حركة فتح والرئيس عباس، والمؤكد أن خطاباً هكذا هو “رجع صدى” للخطاب الإسرائيلي.
لكن الفلسطينيين، إن خلدوا إلى السكينة، ولاذوا بأشكال سلمية من المقاومة (لاعنفية)، يخرج عليك الساسة والباحثون أنفسهم بالقول: أن لا حاجة لدى الإدارة الأمريكية لإيلاء ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الأولوية و”صفة الاستعجال”، وأنه يتعين عليها بدلاً من ذلك، أن تنصرف إلى معالجة الأزمات الأكثر تفجراً.
ولأن الفلسطينيين خلصوا من تجربتهم الخاصة، كما تشير نتائج استطلاعات أمريكية أجريت مؤخراً، إلى أن استخدام الوسائل غير العنيفة كالمقاومة الشعبية والمقاطعة والحملات ضد الاستيطان والجدران ربما يكون أكثر جدوى من المقاومة المسلحة، فإن هؤلاء الساسة والباحثين، لا يتوانون عن بناء “استراتيجيات” للتعامل مع المسألة الفلسطينية، من هذا المنطلق، إذ طالما أن فتح والرئيس عباس، ببرنامجيهما المعروفين، يتقدمان في هذه اللحظة على حماس وكتائب القسام في نتائج الاستطلاعات، فمعنى ذلك، أن حرباً ضروساً على حماس، يمكن أن تعطي نتائج إيجابية، بل ويمكن أن تقوي فتح على حساب حماس، ومحمود عباس على خالد مشعل وإسماعيل هنية.
لكن اتجاهات الأحداث الواقعية على الأرض، تأتي في الغالب، مغايرة لنتائج هذا “الاستشراق” وخلاصاته، المفصّلة غالباً وفقاً لمقاييس ومعايير لا صلة لها بـ “السياق الفلسطيني العام”، السياسي والثقافي والتاريخي ... فالشعب الفلسطيني قد يميل للهدوء والابتعاد عن العنف، طالما أن هناك فرصة أو سانحة لاسترداد حقوقه بوسائل تفاوضية وسلمية، مدعومة بأشكال من المقاومة الشعبية (السلمية) في جوهرها، لكن الأمور ستنفلت من كل سيطرة، وستنقلب رأساً على عقب، بمجرد اشتعال “شرارة” هنا أو وقوع تطور “دراماتيكي” هناك، طالما ظل أفق الحل السياسي – التفاوضي مسدوداً... وأحسب أن الفتى الشهيد محمد أبو خضير، كاد أن يلعب الدور لعبه من قبل، الشهيد محمد البوعزيزي، الذي أحرق المنطقة برمتها، منذ أن قرر أن يشعل النار في جسده، احتجاجاً على الظلم والقسوة وشظف العيش، وإن لم يجد الفلسطينيون “بوعزيزي” خاص بهم هذه المرة، فقد يجدونه في المرات المقبلة، وما أكثرها.
وها نحن نشهد منذ أسبوع أو يزيد، ثورة غضب فلسطينية عارمة، توقعنا أن تكون الضفة الغربية مسرحاً لها، فإذا بها تتخطى الخط الأخضر إلى الداخل الفلسطيني، وإذا بشراراتها تنتقل إلى قطاع غزة، الذي أعلنت إسرائيل رسمياً العدوان عليه، تحت مسمى “الجرف الصامد” ... فعن أي هدوء يتحدث هؤلاء، وما هي قيمة الأرقام والجداول والنسب المئوية الميتة، التي يبنون عليها مواقفهم، ويقترحون بناء عليها “استراتيجيات”، ولِمَنْ؟ ... للدولة الأعظم؟!
صحيح أن نسبة وازنة من الفلسطينيين، خصوصاً في الضفة الغربية، ولأسباب ليس الآن مجال الخوض فيها، إنما تفضل اللجوء إلى أشكال “منضبطة” من المقاومة اللاعنفية، وأن هذا التوجه يلقى ترحيباً من فتح والقيادة الفلسطينية، لكن الصحيح كذلك، أن ردّات فعل إسرائيل الوحشية على أية مظاهر مقاومة، وممارسات إسرائيل العدوانية والاستيطانية اليومية، والأدوار الاستفزازية التي يضطلع بها المستوطنون، وانسداد الأفق السياسي لحل القضية الفلسطينية، فضلاً عن فائض الأزمات الاقتصادية والمعيشية المتراكمة، وسياسات الإذلال اليومية التي يتعرض لها ملايين الفلسطينيين تحت الاحتلال ... جميع هذه العوامل كفيلة بأن تفعل فعل “القنبلة الموقوتة” التي تنتظر “صاعق التفجير”، لتلقب المشهد برمته رأساً على عقب، ولتحيل الهدوء إلى فوضى شاملة، و”الانضباط” إلى انتفاضة أو ثورة لا أحد يعرف من سيحركها أو يقودها، متى تبدأ وأين ستنتهي أوكيف؟
ولا أحسب أن للسلطة الفلسطينية “عصا سحرية” ستمكنها في كل مرة، من إعادة “ضبط الشارع” و”لملمة” الغضب الفلسطيني ... بل ولا نستبعد أن تتفجر طاقة الرفض والغضب الفلسطينية ذات يوم في وجه السلطة قبل الاحتلال، ليس احتجاجاً على ديمومة “التنسيق الأمني” فحسب، بل ورفضاً لمشروعها الذي لم يعد يمتلك أقداماً يسير عليها.
ثم، من قال إن المجتمع الفلسطيني قد طوى نهائياً صفحة حماس؟ ... صحيح أن حماس في ضائقة ومأزق، وأنها في تراجع وحصار، ولكن من قال إن “الآخرين” في لحظة صعود وانطلاق؟ ... من قال إن مأزقهم أقل حدة من مأزق حماس؟ ... ومن قال إن “المزاج العام” الفلسطيني، سيتوقف عن التبدل والتغير ... أليس من الممكن بعد مواجهة قاسية بين إسرائيل وقطاع غزة، أن ينتهي الأمر إلى استعادة حماس بعضاً من ألقها وحيويتها، وأن تنجح في تفكيك بعض أطواق العزلة المضروبة من حولها؟ ... هذا يمكن أن يحدث، ويمكن أن يحدث “نقيضه”، فالأمر من قبل ومن بعد، رهن بكيفية إدارة حماس للمواجهة مع إسرائيل، وكيف ستخرج من الجولة الحالية من جولات الحرب والصراع ... ومثلما أن تعزيز مكانة فتح وعباس، يبدو احتمالاً قوياً، فإن احتمالات تعزيز موقع حماس ومكانتها يبدو قوياً كذلك ... هذا من دون أن نأتي على ذكر سيناريو ثالث، أكثر رعباً وإثارة للفزع، كأن تتخلق في المناطق الفلسطينية المحتلة، بدائل لفتح وحماس، من نوع “داعش” و”النصرة” و”بيت المقدس”، فهل الفلسطينيون صنف آخر من العرب والمسلمين، وهل مجتمعهم أكثر حصانة من المجتمعات العربية والمسلمة، التي فتحت بعض نوافذها وأبوابها لمثل هذه القوى والفصائل؟
خلاصة القول: إن لم تتحول السلطة إلى دولة، تمثل الحد الأدنى من تطلعات الفلسطينيين الوطنية، وإن لم تعالج ملفات الحل النهائي بقدر أدنى من العدالة والقبول، ومن دون إبطاء، فإن من المحال بقاء الحال الفلسطيني على حاله... و”سيكذب المنجمون وإن صدقت استطلاعاتهم ودارساتهم المسحية” .... وعندها فقط، ستفاجأ الإدارة الأمريكية فلسطينياً، كما فوجئت عشرات المرات، بأحداث هذا الإقليم المتغير ورماله المتحركة باستمرار.