من يقرأ شروط مايك بومبيو الاثني عشر التي عرضها على إيران لتطبيع العلاقات معها، يدرك أن وراءها رغبة حقيقية في “تغيير النظام” وليس في تغيير سلوكه وسياساته فقط ... فإن قبلت القيادة بها، قامرت بـ”شرعيتها” و”سردياتها” وكل عناصر اقتدارها كقوة إقليمية ناشئة، ووضعت نفسها على سكة التداعي والتفكك ... وإن هي رفضتها، غامرت بتعريض اقتصادها لـ”السحق”، وأنيابها ومخالبها بالتقليع والتقليم.
بومبيو “لم يترك للصلح مطرحاً”، ولم يبق عليه سوى أن يطلب من “الولي الفقيه” استبدال زي “المرجعية” ببذلات جورجيو أرماني، ومن الشيخ حسن روحاني، ارتداء الجينز وقبعات الكاوبوي الأمريكي، والتسكع في شوارع القدس، “العاصمة الأبدية الموحدة” لإسرائيل، باعتراف أمريكي متفرد ونشاز.
كلفة قبول إيران بصداقة أمريكا، بعد الانصياع لهذه الشروط التعجيزية المذّلة، تبدو بكل المعايير والمقاييس أعلى بكثير من كلفة المقامرة بالعداء لها، وهي البلد الكبير، الضاربة جذوره في عمق الحضارة والتاريخ، وهي التي قارعت واشنطن لأربعة عقود متتالية، جرّبت خلالها مختلف الأدوات والأسلحة الأمريكية، من الحرب المباشرة (1980 – 1988) إلى حروب الوكالة المفتوحة في المنطقة، مروراً بمختلف أشكال العقوبات والحصار والعزلة والتدخل في شؤونها الداخلية.
وربما لهذا السبب بالذات، لم يأخذ القادة الإيرانيون، بمن فيهم الإصلاحيون، وقتاً طويلاً للرد على استراتيجية ترامب – بومبيو الجديدة حيال بلادهم، إذ قوبلت بالرفض والاستنكار الفوريين، والاستعداد لقبول التحدي الأمريكي، والدخول في مرحلة جديدة، مريرة ومديدة، من المواجهات في ميادين التجارة والمال والاقتصاد، وحروب “الوكالة” و”الأصالة” على امتداد الإقليم.
في الحديث عن دلالات السياق والمكان لخطاب بومبيو، نذكّر بأنه يأتي تتويجاً لسلسلة من المواقف العدائية لطهران، بدأت في الحملة الانتخابية الرئاسية، وتواصلت بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، مروراً بالانسحاب من الاتفاق النووي وافتتاح السفارة الأمريكية في القدس، وهو أول خطاب استراتيجي جامع لأهداف السياسة الأمريكية حيال إيران وأدواتها ووسائلها، وقد اختار “الهيريتج فاونديشين” منصة لإطلاقه، بوصفها الذراع البحثي – الفكري لليمين الأمريكي المحافظ، الذي لا يكف عن تغذية مراكز صنع القرار اليمينية، بفائض من الأفكار والمبادرات والسياسات والاستراتيجيات.
وهو خطاب غير مسبوق، من حيث نبرته العدائية وحدته الهجومية منذ انتصار الثورة الإسلامية قبل أربعة عقود وأزمة الرهائن، ولا أذكر شخصياً، أن أيا من الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة، جاءت بخطاب ينضح بكل هذه العدائية والاستعداء ... استخدمت فيه كلمة “السحق” أكثر من غيرها من الكلمات الدالة على عمق الكراهية لإيران وحلفائها ... فيما شروطه الاثني عشر، لا تبقي لإيران من تطلعاتها وعناصر قوتها وأدواتها، أي شيء على الإطلاق، وتحولها إلى “جمهورية موز” تدور في الفلك الأمريكي فحسب، ومستتبعة لإسرائيل.
البعض استنتج أن الخطاب بما انطوى عليه من سقوف مرتفعة للمطالب، إنما يقصد به فتح باب تفاوض جديد مع إيران، ولكن من نقطة عالية، استناداً لما ورد فيه من استعدادات أمريكية لإبرام معاهدة (وليس اتفاقا) مع إيران، حول برنامجها النووي وسلاحها الصاروخي ودورها الإقليمي ومواقفها من حلفاء واشنطن، إلى غير ما هنالك ... لكن إيران، بخبرتها المتراكمة، وتحديداً خبرات جيرانها، تدرك تمام الإدراك، أن فتح الباب للتفاوض على هذه الشروط، سوف يولد المزيد منها، وأن استباحة إيران تماماً، هي أقل ما يمكن أن تنتهي إليه مفاوضات من هذا النوع، وأن انتقالها إلى معسكر واشنطن وإسرائيل، هو نهاية مطاف هذا المسار التفاوضي ... شروط بومبيو ولغته ومفرداته، لا تصلح حتى كمدخل للمفاوضات، مع بلد كبير مثل إيران، اشتهر باعتداده الكبير بإرثه وتاريخه، وكبريائه الوطني العالي.
والحقيقة أن بومبيو في خطابه الجامع، لم يبق بابا مفتوحاً لمعالجة أي من أزمات المنطقة، بل ولم يأت على ذكر الحلول السياسية – التفاوضية لأي من هذه الأزمات المفتوحة... فالمطلوب من إيران، ومن إيران وحدها، أن تنسحب من سوريا، وأن تكف عن التدخل في اليمن والعراق، وأن توقف دعمها للحوثيين وطالبان.
على إيران، أن تقبل بصك الإذعان هذا، وبعد ذلك لكل حادث حديث... كل ذلك نظير وعود لفظية، لا يضمن بومبيو ذاته، قدرته على تنفيذها أو الوفاء باستحقاقاتها، أو حتى بقائه في منصبه لحين الانتهاء من إتمام خطواتها ومراحلها، في إدارة “عالمثالثية” بامتياز.
لكن مشكلة ترامب – بومبيو مع “خريطة طرقهما” الجديدة ضد إيران، أنها تفتقر للأدوات والوسائل الكفيلة بإنجاز مراميها، فواشنطن اليوم في وضع أضعف مما كانت عليه قبل إبرام الاتفاق النووي مع إيران، لجهة قدرتها على فرض نظام عقوبات دولي صارم، بتفلت أوروبا وصعود روسيا والصين ... وواشنطن ليست بوارد حرب شاملة ثالثة في المنطقة، وهي غير مستعدة لها ..، ولإيران “منازل كثيرة” في دول عديدة، بنتها بنفس طويل، وصبر وأناة، طوال أزيد من ثلاثة عقود، وهيهات أن تنجح واشنطنx، في اقتلاعها وتدميرها ... وقد يغادر بومبيو منصبه، وربما يخرج رئيسه من بيته الأبيض، قبل أن تتاح لهما فرصة الاحتفال بتحقيق أهداف الاستراتيجية الجديدة، كما دللت على ذلك تجارب السياسة الأمريكية في المنطقة، طوال العشرين سنة الفائتة.
المصدر :جريدة الدستور
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع