عاد تيلرسون من جولته الخليجية الأخيرة مثلما جاء: بخفيّ حنين، لا شيء يتحرك على مسار المصالحة بين قطر ودول الرباعي العربي ... وقبله زار أمير الكويت الرياض لغرض تجديد الوساطة وإحيائها، لكنه بدوره، عاد كما جاء، ليعلن في افتتاج دورة مجلس الأمة أن الأزمة الخليجية مرشحة للتفاقم بما يفتح الباب رحباً للتدخلات الإقليمية، وبما يهدد أمن دول الخليج وسلامة وضعها الداخلي.
كنا قد أشرنا في مقالات سابقة، إلى انتقال الأزمة الخليجية من مرحلة تغيير السياسات القطرية إلى مرحلة "تغيير النظام"، ونوهنا إلى اللعب بورقة "الأجنحة والأفخاذ" العائلية المتضررة من حكم الأمير تميم ووالده من قبله، وورقة العشائر العابرة للحدود بين دول الخليج، وتأليب أقسام منها على النظام في الدوحة، بعد أن تأكد لدول الرباعي العربي، تعذر خيار "الحسم العسكري" مع الإمارة الصغيرة، التي جعلت من أراضيها موطناً لأكبر قاعدة عسكرية أمريكية فضلاً عن استدعاء وجود عسكري تركي دائم على ترابها الوطني.
قبل أيام، كنت أقرأ لأحد الأكاديميين القطرين تصريحات ومقالات تعالج الأزمة الخليجية ... الدكتور محمد المسفر عبّر بطريقة فجّة عن مخاوفه من حشد العشائر وتأليبها ضد النظام، عندما لوّح بإمكانية استخدام "الكيماوي" ضد تحرك من هذا النوع، في تصريح هو أقرب لـ "السقطة" منه إلى أي شيء آخر، ويعكس درجة من "الذعر" الدفين تعتمل في الصدر والعقل ... وفي مقال آخر للكاتب ذاته، أخذ شكل رسالة مفتوحة للملك عبد الله الثاني، كان واضحاً أن المسفر، يتوقع تحركاً جديداً للرباعي العربي لتشديد قبضة الحصار على قطر، وربما اتخاذ خطوات أبعد من ذلك، نصح الأردن بالانتصار للحق، أو على الأقل الوقوف على الحياد في أزمة ستنتهي حسب المسفر بتقبيل اللحى، وهو "سيناريو" لا يبدو أن كثيرين ما زالوا معتقنعين بجديته وجدواه.
من يتتبع وسائل إعلام وتصريحات المسؤولين في دول الرباعي العربي، يدرك تمام الإدراك، أن دوله الأربع ماضية في سياسة تشديد الحصار والعقوبات المفرضة على قطر، وربما تمتد المسألة لسنوات عديدة قادمة، وليس لأشهر معدودات كما كان يُظن ... وعلى قطر التكيف مع حصار طويل الأمد، يمكن أن يفقدها الكثير من المزايا النسبية التي تمتعت بها، ومن بينها تنظيم كأس العالم، ولأسباب عملية ولوجستية هذه المرة، وليس لأسباب تتعلق بـ "عدم نزاهة" اختيار قطر من قبل الفيفا لهذه الاستضافة.
لا أحد باستثناء أمير الكويت، يبدو "مستعجلاً" على حل الأزمة الخليجية، حتى الولايات المتحدة، تريد احتواء هذه الأزمة ومنع انزلاقها إلى سيناريوهات غير مرغوبة، وعدم السماح لإيران بالاستفادة منها وتوظيفها، بخلاف ذلك، تبدو واشنطن كاذبة في ادعاء الحرص على حل الأزمة في أسرع وقت ممكن، فهي "المستفيد الأول" من سباقات المسافات الطويلة التي يتعين على دول الخليج أن تقطعه من أجل الظفر بالرضى الأمريكي والاستئثار بموقع "الأولى بالرعاية".
من الواضح تماماً أن نبرة التصعيد في التراشق الإعلامي بين أطراف الأزمة، تأخذ منحى جديداً مع كل يوم يمر على اندلاع "حرب الأخوة الأعداء" ... بتنا نستمع لتصريحات تتحدث عن "تنظيم الحمدين الإرهابي" في إشارة إلى الأمير الوالد ورئيس حكومته السابقين ... وبتنا نستمع لعبارات من نوع: "العدو التركي"، في إشارة إلى أهم حليف إقليمي لقطر، وفي مسعى يُظهر أن الحرب على قطر ليست سوى توطئة لحرب أوسع على تركيا، وما مواقف بعض دول الرباعي المؤيدة للاستفتاء الكردي في شمالي العراق، سوى مؤشر آخر على النظرة التي تربط بين عزل قطر واستهداف تركيا، ودائماً ملاحقة ومطاردة جماعة الإخوان المسلمين، ذراع العاصمتين الحليفتين في الإقليم، وفقاً لوجهة نظر أطراف هذا الرباعي.
ربط قطر بإيران، وتصويرها كما لو كانت دمية بيد طهران وحرسها الثوري، ورأس جسر لمعسكر الإرهاب والمارقين في المنطقة، هو تكتيك آخر معتمد في الحرب المفتوحة، التي تجيز استخدام كافة أنواع الأسلحة، بما فيها "البروباغاندا" غير القائمة على أية أية معلومة موثقة أو صحيحة.
"التبشير" بصراع مديد ضد قطر، وحصار مرير للإمارة الصغيرة، والتلويح بإجراءات تصعيدية ضدها، ينبئ بأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن المعركة ضد قطر غيّرت مسارها وأهدافها وانتقلت من تغيير السياسات إلى تغيير النظام.
في المقابل، نرى أن الإدارة القطرية للأزمة، وإن كانت أظهرت بعضاً من الروية والحنكة في مراحلها الأولى، إلا أنها تنزلق إلى مستنقع المكابرة و"ركوب الرأس"، فلماذا تأخذ قطر على عاتقها مهمة "إعادة الرئيس الشرعي" إلى قصر الاتحادية في القاهرة؟ ... ولماذا كل هذا الاستعداء لمصر على سبيل المثال، والذي يقابله استمساك منقطع النظير بجماعة الإخوان المسلمين؟ ... لماذا لم يطرأ تغيير على الموقف من الأزمة السورية، سوى انكماش الدور، المفروض موضوعياً، وليس اختيارياً؟ ... من يتتبع الإعلام القطري يرى أن لا شيء عملياً تغير في مواقف الدوحة، وهو أمرٌ غير مفهوم في ضوء حاجة قطر لتبديد مخاوف بعض أطراف التحالف الرباعي، وتفتيت الجبهة المعادية للإمارة الصغيرة، والمرشحة لمزيد من الاتساع ومزيدٍ من الإجراءات التصعيدية.
لقد حاولت الدوحة تحييد السعودية وتمييزها عن الإمارات وفشلت، فلماذا لا تحاول مخاطبة مصر والعمل على تحييدها، طالما أن ما تريده مصر واضح تماماً، وبمقدور الدوحة أن تدفعه من حسابها من دون أن يطرأ أي تغيير على تركيبة الحكم والنظام الحاكم؟
حتى الآن، تبدو قطر قادرة على تحمل أكلاف الحصار وتبعاته، فالدولة لديها موارد كبيرة، وهي قادرة على تخطي أسوأ السيناريوهات ... لكن ما لا تستطيع الحكومة القطرية تعويضة، هو مناخ العزلة والإحساس بالحصار الذي يخيم على القطريين أنفسهم، وهم الذين اعتادوا امتطاء سيارتهم والتجوال الحر بين دول الخليج الست من دون أية عوائق ... أما على المدى المتوسط والطويل نسبياً، فإن الأكلاف الاقتصادية للحصار، لن تكون محتملة كذلك.
على أية حال، بالحصار ومن دونه، فإن الكثير من النقد وجه إلى السياسات القطرية في الإقليم، والكثير من المطالبات بإحداث التغيير على هذه السياسات ارتفعت من أكثر من جهة، لكن الدوحة ظلت مستمرة على عنادها، وأحسب أن الأوان قد حان، لإعادة نظر شاملة في المقاربات القطرية، بدءاً بالأزمة مع مصر مروراً بالأزمة السورية وانتهاء باختيار الإخوان كحليف فوق العادة للإمارة.
قطر ليست بحاجة لأن تكون "سبارطة" المنطقة، هناك من يتحرق شوقاً للقيام بهذا الدور، قطر يمكنها أن تكون "سويسرا" المنطقة، شريطة أن تطرد الأوهام والأحلام القاتلة، فالجغرافيا لها ديكتاتوريتها و"عبقريتها" والديموغرافيا لها أثرها الحاكم في تقرير أحجام الدول وأدواها، والدوحة تفتقر للأمرين معاً، والمال وحده، لا يخلق دولاً عظمى في نهاية المطاف.