بقلم : عريب الرنتاوي
عشية قمة هلسنكي المنتظرة بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، يدور حديث واسع ومتشعب حول "المكان" الذي ستتموضع فيه روسيا في الصراع الدائر بين الولايات المتحدة وجمهورية إيران الإسلامية ... وقد صدرت عن العواصم المختلفة، مواقف وتقديرات متباينة بهذا الصدد، فما هي حقيقة الموقف الروسي، وأين ستقف موسكو من الصراع المحتدم بين طهران وواشنطن؟
ثمة محور عربي – إقليمي واسع (إسرائيل اللاعب الأبرز فيه)، يعوّل، على نجاح "سيد البيت الأبيض" في إقناع "سيد الكرملين" بالابتعاد عن طهران، والتساوق مع منظومة العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، ومساعدة واشنطن في مسعاها لـ"قصقصة" أجنحة إيران وأذرعها الإقليمية ... وفي المقابل، ثمة محور آخر، يراهن على "عمق" العلاقة والمصالح التي تربط موسكو بطهران، وحاجة روسيا لدور إيراني يمكن روسيا في الإقليم ويعزز نفوذها في بلدانه، وتحديداً في سورية، ويستبعد أن يجري "القيصر" مقايضات ومساومات مع الرئيس الأميركي، تنتهي بوضع إيران بين فكيّ إدارة لا تخفي عداءها الشديد لنظام الحكم القائم هناك.
روسيا، موضوع التكهنات والتقديرات المتناقضة، لا تقدم إجابات قطعية حاسمة، من شأنها وضع حد لهذا الجدل والسجال، وزعيمها يفضل إبقاء أوراقه قريبة من صدره، بانتظار استخدامها في اللحظة المناسبة ... فهي من جهة، وعلى لسان الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، تؤكد أن مفهوم "المقايضة" غير موجود في قاموس السياسة الخارجية الروسية، وبما يطمئن إيران وحلفاءها، بيد أن الناطق نفسه، يلتزم من جهة ثانية، "صمت القبور" عندما يُسأل عن اتفاق إيراني – روسي، جرى التوصل إليه في أثناء زيارة كبير مستشاري المرشد العام للثورة الإسلامية، علي أكبر ولايتي الأخيرة لموسكو، ويقضي باستثمار الأخيرة مبلغ خمسين مليار دولار في صناعة النفط والغاز الإيرانية، وربما بما لا يغضب الرئيس الأميركي، على مبعدة أيام قلائل من القمة التاريخية المنتظرة في العاصمة الفنلندية.
لموسكو شبكة مصالح متشعبة وعميقة مع إيران، سياسياً واستراتيجيا، اقتصادياً وتجارياً، هذا أمر غير مشكوك فيه، وربما لهذا السبب بالذات، يسود الاعتقاد بأنها لن تتخلى عن "حليفتها المزعجة" على الرغم من الضغوط البالغة حد "الابتزاز" في بعض الأحيان من قبل واشنطن وبعض عواصم الغرب ... لكن لروسيا أيضاً، شبكة مصالح أكبر وأعقد وأكثر تشعباً مع الولايات المتحدة والغرب، والمؤكد أنها تسعى جاهدة في حفظها وتعظيمها وإدامتها، مهما كلف الأمر، ولا أحسب أن موسكو بوارد المقامرة بها تحت أي ظرف، وهي مستعدة لتغليبها على ما عداها، إن هي تلقت ما تريد من الضمانات، واستقبلت ما يكفيها من الوعود والتعهدات.
لكن جدران الثقة بين روسيا والغرب عموماً، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، ليست صلبة ولا ثابتة، ولهذا يصعب على الكرملين، التفريط بما لديه من أوراق، قبل أن يكون تأكد من حصوله على الثمن المناسب، وهذه المسألة لن تحسم في قمة واحدة، ولا بين عشية وضحاها ... ولذلك أحسب أن موسكو قررت "التموضع" في مكان آخر، وستجهد في تفادي لحظة الاختيار بين هذا الفريق أو ذاك، أو على الأقل، تأجيلها أطول مدة ممكنة.
لهذه الأسباب مجتمعة، أستطيع تصور "سيناريو" يسعى فيه بوتين لإقناع ترامب، بإمكانية إحداث "المواءمة" و"التكامل" بين المقاربتين الأميركية والروسية حيال إيران، كأن تسعى روسيا في "تدوير الزوايا الحادة" في الموقف الإيراني، وتوظيف العلاقات الخاصة بين موسكو وطهران، من أجل تحقيق هذا الغرض، يشمل ذلك إبقاء الباب مفتوحاً لإعادة النظر في "الاتفاق النووي" الذي انسحبت منه واشنطن من جانب واحد، وبالضد من إرادة بقية الأطراف الموقعة على الاتفاق، كما يشمل تقليص دور إيران في عدد من الأزمات الإقليمية، ومن بينها سورية، دون أن يصل الأمر حد الإقصاء والاقتلاع أو الخنق المفضي للانفجار، وسيجد هذا "السيناريو" ما يشجع الكرملين على الأخذ به، في مواقف عواصم دولية عدة، مستاءة من أداء إدارة ترامب ومقارباتها للملف الإيراني من مختلف جوانبه.
ستلتزم موسكو ببعض خطوط واشنطن الحمر حيال إيران وليس جميعها... من بينها عدم تسليم طهران أسلحة نوعية "كاسرة للتوازن": دفاعات جوية متطورة أو تكنولوجيا تدخل في صناعة الصواريخ بعيدة المدى، تقليص الدور الإيراني في سورية بدل اجتثاثه، فلا أحد قادر على اجتثاثه، وربما توظيف الضغط العسكري الإسرائيلي (الأميركي – الأطلسي) لهذه الغاية، من خلال رفع الغطاء الجوي عن القوات الإيرانية و"الحليف" كما هو حاصل الآن ... تفادي الاستثمار "الكبير" في مرافق إيرانية حيوية ... إلى غير ما هنالك من جوانب قد يجري بحثها تفصيلاً في وقت لاحق، بعد أن تكون الخطوط العامة لها، قد جرى التوافق عليها في هلسنكي.
مقابل ذلك، تريد موسكو، الحصول من ترامب على "سلة منافع وامتيازات" من بينها رفع العقوبات والعودة إلى "نادي الكبار"، والاعتراف بدورها الإقليمي – الدولي في بعض أزمات المنطقة، وتأسيس علاقة قائمة على التعاون، وربما الشراكة، بدل الصراع والاستعداء والمنافسة غير المتخففة من أبعادها الإيديولوجية، بما يؤسس لنظام عالمي جديد.
هي تقديرات وتكهنات لن يكون ممكناً التأكد من سلامتها قبل أن يتصاعد الدخان الأبيض في سماء هلسنكي.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
المصدر : الايام