بقلم - عريب الرنتاوي
لا شيء بات مقعناً للأردنيين، لا فكرة ولا مشروعا، لا خطابا ولا محاضرة، لا مسؤولا ولا مسؤولة، تفشت حالة انعدام الثقة إلى حد بات مثيراً للقلق ... كل فكرة وكل خطاب، يتحول بعد دقائق معدودات، إلى مادة للسخرية والتندر، وكل مشروع أو تصور للمستقبل، بات يثير مزيداً من التشاؤم... وكل مبادرة، صغيرة كانت أم كبيرة، باتت تسقط في مهدها لفرط تشكيكنا وتشاؤمنا ... والويل والثبور لمن يزل لسانه، أو يخطئ في رقم أو معلومة، عندها ستنطبق سماؤه على أرضه.
روح اليأس والإحباط تفشت كما لم يحدث من قبل، وتنذر بإقعادنا عن أي عمل مفيد ... نذهب متثاقلين إلى أشغالنا، وننتظر الأيام السوداء التي لم تأت بعد ... الأفق مسدود والأبواب موصدة ... ومع كل إطلالة على وسائل التواصل الاجتماعي تزداد كآبة، وتفقد الرغبة في استقبال نهار جديد.
لست شديد التفاؤل ببرنامج الحكومة وطاقمها، ولست أعتقد بأن محاضرة الرئيس في الجامعة، ستخرج الأردن من «عنق الزجاجة» أو من «الدائرة المغلقة» ... لكنني اشتم رائحة رغبة حقيقية في فعل شيء، أي شيء، لاستعادة الثقة واستنهاض الروح المعنوية، والتفكير بإحداث فرق ... لكن من يقرأ التعليقات والردود على المحاضرة، وما تلاهما من شروحات وتوضيحات، قام بها الوزراء، يلحظ بسهولة أن شيئاً لم يتغير، وأن فرقاً لم يحدث.
لا أدري من أين نأتي برئيس وطاقم يمكن أن يحدثا فرقاً، وكيف؟ ... لا أدري أي برنامج أو خطاب يمكن أن يستنهض الجمهور ويعيد الأمل إلى الوجوه العابسة واليائسة ... لست ألوم الأردنيين، ولكن ثمة شعوب من حولنا مرت بأصعب مما مررنا به، وأشد هولاً، ولم تفقد الثقة بالمستقبل، ولم تنزلق إلى هذا المستوى من التشاؤم ... ما الذي جرى وكيف وصلنا إلى هذا الدرك؟ ... لا أعرف.
ثمة روح استسلام ونزعة «قَدَريّة» تهيمن على تفكيرنا وخطابنا ... نحن ذاهبون إلى «المسلخ»، أياً كان اسمه، الهاوية أم «صفقة القرن»، شئنا ذلك أم أبينا ... مستقبلنا مرسوم ومقرر سلفاً، وكل ما يجري هو «تدويخ» لنا، لكي نقبل صاغرين ما يحاك لنا ... لكأننا لسنا ذوات فاعلة، ولا دور لنا في رسم مستقبلنا وتقرير مصيرنا .... «جاية جاية»، هكذا هو لسان حالنا، حتى من دون أن نكلف أنفسنا عناء التفكير بما سيأتينا وكيف وما الذي يتعين فعله.
من مستنقع اليأس ذاته، تنطلق نظريات «ثورية»، أو تُستعاد مثل هذه النظريات من بطون الكتب والتجارب المخفقة ... ظاهرها فيه الثورة، وباطنها معجون باليأس والإحباط ... لا مستقبل لنا سوى مع سوريا وإيران وحزب الله، محور المقاومة ... ولا بديل عن حرب الشعب طويلة الأمد أسلوباً .... وعلينا أن نقلب الطاولة على رؤوس إسرائيل والولايات المتحدة والغرب والمجتمع الدولي إن اقتضت الضرورة ... ولا أدري إن كان أصحاب هذه النظريات قد فكّروا ملياً في مالاتها، بل وفي مالات «الحلفاء المقترحين» الذين يتعين علينا أن نستبدلهم بحلفائنا القدامى.
النظرتان السابقتان، ليستا سوى وجهين للعملة ذاتها: اليأس والإحباط ... وهما تدلان على عمق انعدام الثقة بخياراتنا وأوضاعنا، براهننا ومستقبلنا .... أما التفكير بواقعية وعقلانية، فيعرض صاحبه لفيض من الاتهامات: «انعدام الصلة»، التملق، «التسحيج» و»النيوليبرالية».
لا يمنعنا تفشي «انعدام اليقين» في عقولنا من أن ننبري لخوض المعارك الشرسة ضد من يخالفنا الرأي، مع أننا لسنا متأكدين من صحة رأينا، أو أي رأي آخر ... ننفس عن غضبنا وإحباطنا بمعاركنا الجانبية، اللفظية منها وحتى الجسدية ... نتشوُق لقصة جديدة حتى نتوقف عن «لوك» قصصنا القديمة التي عادة ما تكون قد أشبعت بحثا و»تقليباً» من مختلف جوانبها ... نخترع القصص ونعيد انتاجها إن لم نستيقظ على فاجعة جديدة، وهكذا نقضي نهاراتنا ومساءاتنا.
لست ألوم أياً منّا عمّا آل إليه حالنا ... ألوم أساساً حتى لا أقول «حصراً» حكوماتنا المتعاقبة، التي جوفتنا وأفرغت حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية من أي مضمون أو محتوى ... ولست أقلل من حجم الأزمات والتحديات التي تعتصرنا، فهي حاضرة وخطيرة وذات طبيعة استراتيجية، داخلية كانت أم خارجية ... ولكن من قال إن الشكوى والتذمر، السباب والشتيمة، اليأس والإحباط، يمكنها أن تساعدنا في الخروج من «عنق الزجاجة/الحلقة المفرغة»؟ ... من قال إن «السوداوية» هي الحل؟
لا وصفة سحرية لديّ أقترحها على أحد، خارج إطار «نظرية نصفي الكأس» ... دعونا دوماً نرى نصفي الكأس، الممتلئ والفارغ ... لا حاجة لنا بتجاهل أي منهما، أقله حتى نستطيع الاستمرار في يومياتنا وحيواتنا، وحتى لا نفقد القدرة على الأمل والرجاء، ونضيع الحافز للعمل والإنتاج والتغيير، وحتى لا نصاب بإعاقة مزمنة لا يصلح معها أي مشروع أو برنامج.