بقلم : عريب الرنتاوي
فوق مياه المتوسط، شرقه وجنوبه على نحو خاص، تحتشد الأساطيل والسفن الحربية، ومن تحت مياهه الزرقاء الرائقة، تفوح روائح النفط والغاز، المُسيلة للعاب الشركات وحكوماتها، والجاذبة سفن البحث والاستكشاف والتنقيب العملاقة، فيما يعكف خبراء من مختلف أنحاء العالم، على رسم خرائط الأنابيب التي ستحمل الطاقة من بلدان المنبع إلى دول المصب.
تصريحات نارية، تلويحات متبادلة بالخيار العسكري، اجتماعات طارئة على أرفع المستويات السياسية والأمنية، من أنقرة للقاهرة، مروراً بأثينا ونيقوسيا، وليس انتهاء ببروكسيل وباريس ولندن وبرلين وروما، أمريكا صاحبة الأسطول الأكبر (والأقدم) في البحر، الاسطول السادس ذائع الصيت في منطقتنا، ليست بعيدة عن المشهد، بل أنها تدير وتحرك كثيرا من خيوطه.
روسيا كذلك، تبدو منخرطة من الرأس حتى أخمص القدمين، في مياه المتوسط الدافئة ونزاعاته الساخنة، هي التي أنشأت على ضفافه الشرقية قاعدتين عسكريتين، بحرية وبرية، مسنودتين بشبكة من القواعد الأقل شأناً في عمق الصحراء والجزيرة السوريتين، وتتطلع لقواعد برية وجوية، وبالأخص بحرية، على الشاطئ الليبي الممتد لأكثر من 1750 كم على طول الشاطئ الجنوبي للبحر...الصين، عملاق الصناعة، الذي لا تتوقف حاجته للطاقة عن التزايد، ليست بعيدة بدورها عن بؤرة هذا الصراع الدولي الناشئ، وإن كانت لها أدواتها «الحريرية» المختلفة، في انتزاع النفوذ وبسط السيطرة، من دون إسقاط خيار «القوة الخشنة» بدءاً من قاعدتها البحرية في جيبوتي، على أمل الوصول إلى ضفاف المتوسط.
بلغة التحالفات والمحاور، تبدو مصر إلى جانب اليونان وقبرص، ومعهما فرنسا وإسرائيل و»شرق ليبيا» في خندق واحد...في المقابل، تبدو تركيا، ومعها «غرب ليبيا»، وإيطاليا إلى حد ما، في خندق واحد...لم تقبل أنقرة بخرائط ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان وقبرص، وهي استشعرت خطر «الإقصاء» من مبادرة «منتدى غاز شرق المتوسط»، فلجأت إلى ترسيم حدودها البحرية مع ليبيا، متجاوزة «سيفر» و»لوزان»، ومبتلعة مساحات واسعة من مياه البحر، ما أثار حفيظة المحور الأول، ودفعه لزيادة حضوره العسكري في مياه المتوسط، وبصورة لا تخلو من «التحدي» و»التلويح» بخيار القوة.
ولأن الدول لم تهتد بعد لاختراع «نموذج بحري موثوق» لحروب الوكالة، فإن أي احتكاك بين الأساطيل والقطع البحرية المحتشدة في شرق المتوسط وجنوبه، سيكون بمثابة حرب كبرى بين دول كبرى، بعضها يتشاطر عضوية «الناتو»، وبعضها الآخر، تربطه علاقات استراتيجية مع أقطاب دولية، من موسكو (كما في الحالة السورية وشرق ليبيا) إلى واشنطن وبروكسيل، كما في حالة اليونان وقبرص، وبدرجة أقل القاهرة وأنقرة.
ولأن هذه الدول تسعى في تفادي الاحتكاك البحري المباشر واللجوء لخيار القوة العسكرية فيما بينها، فإنها تفضل الاقتتال على اليابسة الليبية، هنا تبدو «حروب الوكالة» ممكنة، وليبيا دولة وسطية جغرافياً على الشاطئ الجنوبي للمتوسط، وتحتفظ بواحد من أطول شواطئه، ومن يتحكم بها، يتحكم بقطاع بحري واسع، دع عنك خيرات البلاد ذاتها، الغائر منها تحت سطح مياهها الخالصة، وما هو خبيء منها تحت رمال صحاريها المترامية.
إن صمد آخر اتفاق لوقف النار بين الأطراف المتحاربة على الأرض الليبية، وإن مهد «صمت المدافع» لتسوية سياسية تتوج بانتخابات عامة، رئاسية وبرلمانية، في الربيع المقبل، فإن الهدوء قد يعود لمياه المتوسط، أما إن بقي الحال على حاله، أو تفاقم الوضع الميداني على خط سرت – الجفرا، فإن المتوسط سيلفظ أمواجاً عاتية، ستطاول بآثارها «التسونامية»، اليابسة شرقه وجنوبه وشماله، والأمر من قبل ومن بعد، معقود على مآلات الأزمة الليبية: حرباً أم سلماً.