بقلم:عريب الرنتاوي
العولمة ليست «اختياراً»، بل هي مسار إجباري تجد البشرية نفسها سائرة على دروبه، إن بفعل التحديات والمهام التي تجبهها كونها تتشاطر الكوكب ذاته، أو سعياً منها لتفادي «الانتحار الجماعي» بعد أن توفرت لها القدرة على «الإفناء الذاتي»، أو رغبة منها في تعظيم المكاسب وجني الأرباح بفعل «التقسيم العالمي للعمل»....بهذا المعنى يمكن الحديث عن العولمة بوصفها «ضرورة» يتعين وعيها وإدراكها ابتداءً، لضمان «ترشيدها» و»حوكمتها» أو قل «أنسنتها» إنجاز التعبير.
والعولمة بهذا المعنى، ليست حالة طارئة ألمّت بالبشرية في السنوات والعقود الأخيرة، أي منذ أن تحول العالم بأسره إلى «قرية صغيرة»، بل هي تتويج لمسار تاريخي، انخرطت فيه البشرية بكثافة وتدرج، قبل طريق الحرير وبعد، وقبل الكشوفات الجغرافية وبعدها، فما من أمة مهما عظمت، وما من امبراطورية مهما ترامت أطرافها، قادرة على تلبية احتياجاتها المتنامية من داخل حدودها المغلقة.
"الشرعية" في اليمن… جزء من المشكلة
هذا اللقاح الساحر في مواجهة الوباء
تجد العولمة مبررها في ندرة الموارد (على عظمها) مقابل «لا محدودية» حاجات البشر واحتياجاتهم،المتجددة دوماً....هنا تتجلى وظيفة «التقسيم العالمي للعمل»، دول تتوفر على المواد الخام وأخرى تحتاجها....دول تتوفر على الأيدي العاملة وأخرى تنقصها....دول سبقت غيرها في انتاج المعرفة والتكنولوجيا، وأخرى ما زالت تبحث عنها....لا دولة في العالم تتوفر على كل ما تحتاجه، لأن حاجاتها ببساطة ليست معرّفة، ولا محدودة، بل يمكن القول بـ»لا نهائيتها».
تستطيع «النزعات الوطنية، الانكفائية، الانعزالية» أن تحدث اضطراباً في مسارات العولمة ووجهة تطورها، بيد أنها لا تستطيع وقفها ولن تستطيع....ذلك مخالف لقواعد تطور المجتمع الإنساني العالمي....وتستطيع الرأسمالية النهمة والجشعة أن تفرض سيطرتها على اتجاهات تطور العولمة، وأن تحيل «قريتها الصغيرة» إلى سوق مُحتَكرة لحفنة من الشركات العابرة للحدود والقارات، ولكن تعاقب موجات الثورات الصناعية والتكنولوجية، يفتح أفقاً باستمرار لإعادة تشكيل مراكز القوة الاقتصادية والمالية والتجارية، ونقل مراكز السيطرة والتحكم الاقتصادي والمالي، من عاصمة إلى أخرى، ومن قارة إلى أخرى.
والأصل، أن الأمم المتحدة، وما ينبثق عنها أو على هامشها، من مؤسساته ومعاهدات دولية، هي «حكومة العالم»، بعد الحرب العالمية الثانية....هذه الوظيفة اختلت كثيراً، بل ولم تكن يوماً فعّالة كما ينبغي، فالميل للاحتكار والسيطرة وتقاسم النفوذ، حكم عملها منذ أن أعطي الخمس الدائمين حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن، في إقرار عالمي نادر بتفوق هذه الأمم....»دمقرطة» النظام العالمي، إلى جانب «أنسنته» تبدو اليوم، مهمة أساسية على جدول اعمال التاريخ، إن أرادت البشرية تفادي المزيد من جولات الحروب المهلكة والمدمرة، وإن هي رغبت في الحفاظ على «امنا الأرض» من الاستخدام الجائر للثروات والمصادر الطبيعية....»دمقرطة العولمة وأنسنتها» هي الشرط اللازب لـ»عقلنة» نظام العلاقات الدولية، وتوطئة لا بد منها لخلق نظام عالمي جديد.
قبل جائحة كورونا، كانت العولمة تهتز على وقع الانقسامات والصراعات الدولية، وكانت تترنح بفعل صعود اليمين الشعبوي (العنصري في الغالب) مدعوماً بنزعات وطنية تأججت بفعل تنامي موجات الهجرة واللجوء....الجائحة ستعزز هذه النزعات الانغلاقية، سيما في ضوء ما اظهرته من «أنانية» في تصرف بعض الدول والحكومات....لكن لا الجائحة ولا صعود اليمين الغربي أو تيارات التطرف والغلو في الشرقية، كفيلة بوقف المياه عن الجريان في نهر العولمة، وعلى العرب بخاصة، العمل على توسيع «روافدهم» التي تصب في هذا النهر، بدل الاكتفاء بهجاء العولمة الجائرة والمتوحشة....عليهم الإسهام في تقديم نصيبهم من مشروع «أنسنة» العولمة و»دمقرطتها»، فهل هذا ممكن؟