بقلم : عريب الرنتاوي
يبحث الفلسطينيون عن بدائل لخيار “حل الدولتين”، بعد أن أيقنت غالبيتهم الساحقة بأن هذا الخيار قد بات وراء ظهورهم جميعاً، في ضوء تسارع سياسات النهب والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، وارتفاع حمى الاستيطان في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، وبشكل خاص في مدينة القدس.
أكثر البدائل رواجاً، هو خيار “الدولة الواحدة” على أرض فلسطين التاريخية، حيث من المفترض أن يعيش جميع سكانها بحقوق متساوية، وقد ألمح الرئيس محمود عباس إلى هذا الخيار مؤخراً، في خطابه أمام الأمم المتحدة، بوصفه الحل إن مات “حل الدولتين”، وتشهد النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية الفلسطينية، جدلاً محتدماً حول هذا الموضوع، كما لو أنه بات اكتشافاً جديداً.
والحقيقة أن “حل الدولة الواحدة”، كان مشروعاً مطروحاً منذ بضع سنوات، وقد دافعت عنه، وروجت له، نخب وشخصيات أكاديمية وسياسية فلسطينية، من بينها أكاديميون من “عرب 48”، لكن أطروحاتهم تلك كانت تصطدم بقوة التأييد المحلي والإقليمي والدولي لـ “حل الدولتين”، باعتباره الحل الوحيد الممكن، وبفرض أن تجسيده أكثر يسراً وتناولاً من “حل الدولة الواحدة”.
لكن المشهد يبدو اليوم مختلفاً جداً، إذ بالرغم من وجود أغلبية فلسطينية وازنة داعمة لـ “حل الدولتين”، إلا أن هذه الأغلبية ذاتها، تساورها أعمق الشكك في فرص ترجمة هذا الحل وتجسيده، حتى السلطة الفلسطينية وحزبها الحاكم: فتح، ورئيسها محمود عباس، بدأ اليأس من إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، يتسلل إلى نفوسهم، وما تلويح الرئيس عباس من على منبر الأمم المتحدة بحل الدولة الواحدة، إلا تعبير عن تفاقم هذه الحالة.
منذ سنوات و”حل الدول الواحدة” يُطرح فلسطينياً بوصفه “ورقة ضغط” يلوّح بها في وجه الحكومات الإسرائيلية عندما تمعن في التنكر لـ “حل الدولتين” أو تتخذ من السياسات والإجراءات، ما يجعل هذا الخيار، أمراً مستحيلاً ... ويستبطن هذا الفهم قناعة عميقة عند الفلسطينيين، مفادها أن “حل الدولة الواحدة” أصعب على الإسرائيليين من “حل الدولتين”، تأسيساً على هاجس الديموغرافيا الذي يؤرق المجتمع الإسرائيلي، ويدفع غالبيته العظمى لتبني خيارات عنصرية وإجلائية حيال الفلسطينيين.
بهذا المعنى، يبدو “حل الدولة الواحدة”، شعاراً اعتراضياً على فشل مسار التفاوض وتآكل “حل الدولتين”، لكن السؤال الذي يُطرح بإلحاح هنا، هو: إذا كانت حال الفلسطينيين واقتدارهم وأوراق قوتهم، لا تسعفهم لإنقاذ “حل الدولتين” وانتزاعه من قبضةالأنيابالفولاذية لجرافات الاستيطان، فكيف لهم أن ينتزعوا حلاً يرفضه الإسرائيليون بإجماع أكبر وبقوة أشد؟
لا بأس من التفكير ببدائل لـ “حل الدولتين”، ومن بينها “حل الدولة الواحدة”، لكن يتعين على الفلسطينيين أن يدركوا أن إسرائيل، وبالذات يمينها المتطرف، عندما عملت على نحو منهجي منظم على تدمير أي فرصة لقيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، لم تكن غافلةً عن احتمالات الوقوع في “مطب الدولة الواحدة”، والجدل في إسرائيل حول هذه الخيارات جميعها، أقدم وأعمق وأشمل، من الجدل الدائر حولها في الأوساط الفلسطينية.
لإسرائيل خياراتها البديلة المتمثلة في دولة الحدود المؤقتة، دولة المُزق والبقايا، دولة الكانتونات المحتربة، ولإسرائيل مشاريعها التي تضع في صدارة أولوياتها قضم أوسع مساحة من الأرض والتخلص من أكبر عدد من السكان ... وإسرائيل لم تسقط أبداً خيارات حل القضية في الأردن وعلى حساب الأردنيين والفلسطينيين على حد سواء ...ولإسرائيل مفاجآتها التي تنتظر استكمال مسلسل التهافت والهرولة الذي يجتاح عددا متزايدا من العواصم العربية.
لا بأس من التفكير بـ “حل الدولة الوطنية”، لكن ليس في سياق المناكفة و”الحرد” والتهديد الفارغ و”الاعتراض” المؤقت، على الغطرسة الإسرائيلية، بل بوصفه جزءاً من استراتيجية بديلة، وفي سياق السعي المخلص لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، وإعادة تعريف برنامجها الوطني وأهدافها ... وفي مطلق الأحوال، يجب أن يبدأ التفكير بأي من الخيارات المقبلة، من التسليم بأن الحل، أي حل، ليس بمتناول اليد الآن ولا في المدى المرئي، والمؤكد أنه ليس على مرمى حجر، بل هو نتاج وتتويج لعملية نضالية طويلة وشاقة، قد ينخرط فيها أكثر من جيل من الفلسطينيين ... نبذ الأوهام حول قرب التوصل إلى حلول نهائية هو المقدمة الضرورية للنجاح في استنهاض الحركة الوطنية الفلسطينية و”تشبيبها” ووضعها من جديد على سكتها الصحيحة، بعد أن تاهت طرقها وتشتت مساراتها، منذ أوسلو مروراً بالانقسام، وانتهاء بما نحن فيه وعليه من ضعف وتفكك وتآكل.