بقلم : عريب الرنتاوي
«الزلزال»، هي أكثر الكلمات شيوعاً في توصيف نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية 2019... وفي ظني أنها تعبير دقيق في وصف مجريات الحدث التونسي الذي راقبه العالم باهتمام بالغ.
التونسيون عاقبوا أحزابهم و»نظامهم السياسي» الجديد مرتين: الأولى؛ عندما ذهبوا بفتور وتثاقل إلى مراكز الاقتراع (45 بالمئة نسبة المقترعين) ... والثانية؛ عندما حجبوا أصواتهم عن المنظومة الحزبية التي أدارت البلاد منذ الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي في العام 2011، ومنحوها لشخصيات مستقلة، معارضة.
في تحليل الظاهرة، قيل وسيقال الشيء الكثير ... تشققات الحالة الحزبية التونسية واصطراعات النخب السياسية ... تراجع ظاهرة الإسلام السياسي ... ضعف المنجز الاقتصادي طيلة سني ما بعد الثورة، ما أبقى غول البطالة طليقاً يعبث بمصائر مئات ألوف الشبان والخريجين الجدد، إلى غير ما هنالك من أسباب، تدفعنا لتأكيد ما كنا ذهبنا إليه من قبل: صورة تونس من الخارج وللخارج، أفضل بكثير.
لكننا مع ذلك، لا نستطيع أن نخفي إعجابنا الشديد، بتجربة الانتقال السلمي السلس الذي دشنته تونس نحو الديمقراطية ... هي المرة الأولى التي يحاكي فيها بلد عربي تجربة الديمقراطيات الغربية في المناظرة والحملات ونزاهة العملية وحفظ «شرف» صناديق الاقتراع ... نرفع القبعة للإخوة التونسيين على نجاحهم في إدارة عملية انتخابية راقية، لم تؤثر الشوائب القليلة، على صورتها الكلية، ناصعة البياض.
هي مرحلة الانتقال بكل ما فيها من «تعايش» بين قديم يأبى أن يترك مكانه، وجديد لا يقوى على تثبيت حضوره ... هي مرحلة الانتقال حيث يجهد الجديد في طرد القديم، وتذليل ممانعته، ببطء وقليل من النجاح ... ولأنها كذلك، فهي تستبطن في طياتها بدائل واحتمالات، بعضها مرغوب، وبعضها الآخر مقلق للغاية.
«العائلة الديمقراطية» التونسية، والتعبير ليوسف الشاهد، خاضت الانتخابات متفرقة ومبعثرة ... الأرقام تشير إلى تنامي فرص مرشحها «التوافقي» لو أن أفراد هذه العائلة تخلوا عن نزعاتهم الفردية وأنانيّاتهم، لصالح مشروع الانتقال، لما جاءت النتائج على هذا النحو ... هذا جزء من إرث الماضي التليد.
الإسلام السياسي في طبعته التونسية «النهضوية»، مني بخسارة جسيمة ... لقد قيل في وصف الانتخابات الرئاسية بأنها معركة «توزين» أو بالأحرى «إعادة توزين» للقوى السياسية التونسية، وقياس أحجامها وحضورها وتمثيلها الشعبيين ... بهذا المعنى، حصلت «النهضة» على 11 بالمائة من أصوات التونسيين وفقاً للنتائج الأولية، غير الرسمية بعد، وهذا خطب جلل يسقط على رؤوس قادتها وشيوخها ونظرائهم في العالم العربي، حتى وإن جاءت النتائج الرسمية النهائية للانتخابات لتعطيهم «كسوراً عشرية إضافية» ... فالنهضة في تراجع، وكذا الإسلام السياسي عموماً في الإقليم، كما تشي بذلك كافة المؤشرات والدلائل.
اليسار التونسي الذي بدا صوته مرتفعاً قبل الانتخابات وفي أثناء حملاتها حامية الوطيس، مُني بخسارة جسيمة (متوقعة على أية حال)، حتى أنني لم أعثر على أسماء لمرشحيهم من بين قائمة العشرة الأوائل في الانتخابات (أقل من ثلاثة بالمئة لمرشحي اليسار مجتمعين).
ما الذي يمكن أن نتعلمه في الأردن من تجربة الانتخابات التونسية: (1) الانتخابات القائمة على التعددية الحزبية لا يجب أن تكون خياراً مخيفاً، فالفرص ستبقى مفتوحة لشخصيات وطنية عامة، لخوض غمار معارك انتخابية ناجحة ... (2) الإسلام السياسي لم يعد شبحاً أو «بُعبعاً» يمكن أن يثير الخشية ويمنع التقدم على طريق برلمان وحياة سياسة قائمة على التعددية السياسية، تونس بعد تركيا، تثبت هذه الخلاصة ... (3) انقسامات معسكر الديمقراطيين الليبراليين، والتيار المدني بعامّة، هي سبب رئيس في هزائمه أمام التيارات الأخرى، ومن بينها التيار الإسلامي، هذا تيار عريض ومستقبلي، بيد أن أزمته تكمن في تناقضاته الداخلية ... (4) اليسار كما عرفناه، بات صفحة من الماضي، وما لم ينطلق اليسار بخطاب جديد وأدوات جديدة، ويقطع مع الماضي، فإنه سيظل في خانة «الكسور العشرية»، وفي أحسن أحواله من ضمن فئة «الواحد بالمئة»، وهذا ليس درساً مشتقاً من التجربة التونسية وحدها، هذه خلاصة الانتخابات العربية قبل الربيع وبعده.... (5) نزاهة الانتخابات وشفافيتها، مكسب وطني كبير، تصغر معه، كافة الحسابات الصغيرة أصلاً، التي قد تدفع للإقدام على شتى أشكال التدخل الضارة في العملية الانتخابية، يوم الاقتراع وما قبل يوم الاقتراع، وهذا هو الأهم في اللحظة الأردنية الراهنة.