بقلم - عريب الرنتاوي
من طهران، أطلق الرئيس العراقي المنتخب حديثاً، دعوة لجعل العراق ساحة تلاقٍ وليس منصة للصراع بين إيران والولايات المتحدة ... هو إذن، يسعى في تبني وتطوير نظرية «النأي بالنفس» التي أطلقها اللبنانيون مع اندلاع الأزمة السورية ... الرسالة مهمة لسببين اثنين: الأول؛ ويتعلق بمكان إطلاقها إلى جانب الرئيس روحاني في المؤتمر الصحفي المشترك ... والثاني؛ الزمان، مع بدء تطبيق الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية على طهران، ودخول الصراع الإيراني – الأمريكي مرحلة جديدة من الاحتدام والتوتر.
برهم صالح، سليل مدرستين في السياسة العراقية ... فهو من جهة تلميذ نجيب في مدرسة «مام جلال» التي عرفت باعتدالها وانفتاح على العرب وعلاقاتها الطبيعية أو حتى الجيدة مع الإيرانيين ... لكنه من جهة ثانية، معروف بعلاقاتها الوثيقة مع واشنطن، شأنه في ذلك شأن سياسيين عراقيين كثر ... وهو وإن كان اختلف وتمايز عن الاتحاد الوطني بعد رحيل مؤسسه جلال الطالباني، إلا أن ترشيحه لمنصب رئيس الجمهورية وفوزه الواضح فيه، يعكس لحظة التقاء التوازناتوانعقادها، حول شخصية عراقية، من المتوقع أن تعطي المنصب البروتوكولي زخماً إضافياً.
لكن دعوة صالح تثير الكثير من الأسئلة والتساؤلات والشكوك، حول جديتها وقدرة صاحبها ومن يؤيدونه في مسعاه، على ترجمتها ونقلها إلى حيز التنفيذ: هل ترغب واشنطن للعراق أن يقوم بهذا الدور، أم أنها ستجعل منه ساحة لتصفية الصراع مع عدوتها الأولى في المنطقة: إيران؟ ... والثاني: هل ترغب إيران، للعراق أن يلعب هذا الدور، وهي التي تعتقد أنها تلعب فوق أرضية صلبة في بلاد الرافدين، ولديها من أوراق القوة فيها، ما يفوق – ربما – ما لدى واشنطن؟ ... وهل ترغب عواصم الإقليم، خصوصاً العربية المشتبكة مع إيران، أن ينهض العراق بهذا الدور، وهي التي لا تنفك مؤخراً عن التعبير عن «حنينها» للعراق – القديم، الذي لعب دور «السدّ» في مواجهة التمدد الإيراني، مع إنها أسهمت مباشرة في تهديم هذا السدّ، ويسرت للولايات المتحدة فرصة تفكيك الدولة والجيش والمؤسسات العراقية؟
في العراق، ثمة من يجادل بسقوط «نظرية السدّ»، وعدم واقعية رهانات بعض العرب على دور عراقي فاعل في مواجهة إيران ... إيران بنت لنفسها منازل كثيرة في العراق، ونفوذها الظاهر والمخفي فيه، أكبر من أن يجري اختزاله أو احتواؤه ... وفي العراق، حيث تختلف الطبقة السياسية حول كل شيء تقريباً، بيد أنها تتفق على الحاجة لتحييد إيران والإبقاء على علاقات معها، أقله في المستوى الطبيعي... وفي ظني أن مثل هذه الخلاصة صحيحة تماماً.
وفي العراق، ثمة من يجادل بأن واشنطن ليست بوارد تحويل العراق إلى منصة لـ»تسوية الحساب» مع إيران، ويستدلون على ذلك بإحجام واشنطن عن طرح فكرة «حل الحشد الشعبي»، برغم مرور ما يقرب من عام على هزيمة داعش في العراق ... ويعلل أصحاب هذه المدرسة موقفهم بالقول: إن واشنطن ما زالت تخشى خطر عودة «داعش» من جهة، وتريد أن تحتفظ بوجود عسكري مستدام، أو طويل الأمد في العراق من جهة ثانية.
لكن في المقابل، ثمة شواهد على أن واشنطن لا تكف عن ممارسة الضغوط على العراق لدفعه للتخندق وراءها في مواجهة إيران... منها إعطاء العراق مهلاً قصيرة زمنياً للالتزام بنظام العقوبات الصارم الذي فرضته على طهران، بما لا ينسجم مع رسالة برهم صالح حول «ساحة التلاقي»، ومنها الاحتكاك الذي يزداد خطورة بين الحشد الشعبي والقوات الأمريكية، ومؤخراً حول قادة «G 3»، ومنها تعميم البنك المركزي على البنوك العراقي لتحذيرها من مغبة التعامل بالدولار مع البنوك الأمريكية، وثمة شواهد أخرى، وأحياناً متناقضة، تجعل الجزم بالوجهة التي تريد واشنطن للعراق أن يسلكها أمراً صعباً.
في ظني، وبصرف عن مآلات رسالة صالح التصالحية، إلا أنها رسالة تستحق الاهتمام والتقدير، وتستحق أن يُنظر إليها جدياً من قبل مختلف أولوان الطيف السياسي والاجتماعي العراقي، فالمنطقة بحاجة للعراق كجسر للحوار والتواصل والالتقاء، بعد أن سقطت نظرية «السدّ» و»الحاجز».