بقلم : عريب الرنتاوي
كنا وصفنا المعركة على إدلب بـ«أم المعارك»، الصورة بعد عام تبدو أكثر تعقيداً ... مئات وألوف المقاتلين من أتباع «النصرة» انتقلوا إلى المحافظة الشمالية/الغربية لسوريا، لكأنها تحولت إلى «مكب نفايات» للجماعات الإرهابية، ومأوى الذين لم يعد لهم مأوى أو ملاذ آمن، إن بفعل الضربات الموجعة التي تلقاها التنظيم، أو كنتيجة للمصالحات المحلية التي شهدتها سوريا خلال الفترة الماضية.
آخر وجبة من المنفيين إلى إدلب جرى وصلوها خلال الساعات الماضية، بعد أن نجح مقاتلو حزب الله في إلحاق هزيمة نكراء بالتنظيم بقيادة «أميره المحلي» أبو مالك التلي ... إذ في الوقت الذي كان يُعتقد فيه أن العدد الإجمالي لمقاتلي التنظيم في جرود عرسال لا يتجاوز البضعة مئات، تبين أنهم يزيدون عن ألف وثلاثمائة مقاتل، ليصل عددهم مع عائلاتهم، إلى 7777 شخصا، أغلبهم من السوريين.
واشنطن وجهت بالأمس، رسالة قوية إلى المعارضة السورية، شددت فيها على أن النصرة بمختلف مسمياتها القديمة والجديدة، هي تنظيم إرهابي، فتغيير اسم التنظيم لا يبدل من مضمونه، ولا يستدعي تغييراً في المواقف الإقليمية والدولية حياله، حتى وإن تغطى التنظيم خلف عباءة مدنية، اسمها إدارة محلية لإدلب أو غيرها ... واشنطن لم تقل مباشرة أنها ستشن حربا شعواء لتحرير إدلب من النصرة، بيد أنها ألمحت إلى ضوء أخضر لروسيا وحلفائها للقيام بهذا الدور.
على الدوام، ظل السؤال حول مصير إدلب مطروحاً، ومع كل دفعة من المقاتلين الذين أخرجوا إليها، كان السؤال يقفز إلى الصدارة من جديد ... وفي تقديرنا أن إدلب إما أن تكون بوابة لـ «تسوية كبرى» أو ساحة لـ «معركة كبرى» ... التسوية الكبرى، قد تلحظ دوراً نشطاً لأنقرة في تصفية النصرة في هذه المحافظة الحدودية مع تركيا، لكن الأخير ليست بوارد عرض تقدمات مجانية لأحد، وهي وإن كانت على استعداد للقيام بهذا الدور، والانقضاض على «الابنة» التي أرضعتها وغذّتها طوال سنين سبع عجاف، إلا أنها ستفعل ذلك مقابل ثمن يتصل برأس الكيان الكردي المتشكل في الشمال السوري ... من دون ذلك، لا يظنن أحدٌ أن تركيا ستقامر بحياة جنودها كرماً لعيون التحالف الدولي ضد الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة.
ثمة مؤشرات تدفع على الاعتقاد بأن بحثاً في هذا الموضع قد جرى منذ زمن، بل وربما يكون قطع شوطاً على طريق الاتفاق بين أطراف ثلاثة رئيسة: واشنطن وموسكو وأنقرة، خارج سياق أستانا بالطبع، ويمكن النظر إلى «القتال التراجعي» لأحرار الشام وانسحاباتها المنظمة أمام النصرة، وهي المحسوبة على تركيا، بوصفها مؤشراً إضافياً على توجه تركياً ترك مسافة متزايدة الاتساع تفصلها عن النصرة، وربما تجميع عناصر الأخيرة في مربع واحد، توطئة للانقضاض عليها عندما تحين اللحظة المناسبة لذلك
قبل الأزمة الخليجية المحتدمة، ومقاطعة قطر كان من الممكن توقع استمرار محاولات تأهيل النصرة وإدماجها في المعارضات السورية المسلحة، وهي المحاولات التي لعبت قطر وتركيا دوراً «رائداً» فيها، لكن بعد اندلاع هذه الأزمة، بدا أن باتت هذه المهمة أكثر صعوبة، ولم يصدر عن «أبو محمد الجولاني» على أية حال، ما يشي باستعداده للتساوق مع المسعى القطري – التركي المشترك من قبل، ولا أظن أنه سيفعل ذلك من بعد.
ولقد فاتت الفرصة التي كان يمكن لجناحي الإرهاب في سوريا (داعش والنصرة) أن يضما بنادقهما إلى بعضهما البعض، فمناطق سيطرة الفصيلين تكاد تكون منفصلة تماماً من الناحية الجغرافية، إلا في جنوب غرب سوريا، وبعض الجيوب المتبقية في ريف دمشق الجنوبي – الشرقي، وسيتعين على الفصيلين مواجهة مصيرهما المشترك، أحدهما بمعزل عن الاخر... هنا وهنا بالذات، تتجلى على نحو واضح، المخاطر الوجودية لـ «العمى الإيديولوجي» الذي يصيب بعض القوى والحركات الشمولية، ولعل من الأمور بالغة الدلالة أن يكون آخر قرار لـ «أبو مالك التلي» في جرود عرسال، وقبل أن يصعد عتبة الباص الذي سيُقله في رحلة «اللاعودة» إلى إدلب، هو تصفية أحد أعوانه المتهم بمبايعة داعش سراً.
داعش يواجه آخر معاركه السورية الكبرى في الرقة ودير الزور، والنصرة بانتظار «أم المعارك» في إدلب، أما جبهة الجنوب الغربي فتنتظرها معركة تكتيكية لاستئصال جيش خالد بن الوليد في حوض اليرموك، فيما قد لا يختلف مصير النصرة في درعا والقنيطرة عن مصير «إمارتها العرسالية» التي تهاوت مؤخراً وبأسرع مما كان يعتقد.