عنصريتنا الطافحة

عنصريتنا الطافحة

عنصريتنا الطافحة

 عمان اليوم -

عنصريتنا الطافحة

بقلم : عريب الرنتاوي

ليست العنصرية بالثقافة «الوافدة» على مجتمعاتنا، ولا هي بالنبت الشيطاني الذي طفا فجأة على سطح مشهدنا الثقافي والسلوكي ... إنها الابنة الشرعية، لسياق تاريخي – ثقافي شكلناه وشكلنا، توارثناه من الأسلاف ونورثه للأحفاد ...والمفارقة العجيبة التي تنم عن عمق «ازدواجيتنا» أننا معشر نكثر من هجاء عنصرية «الآخر» ولا نلتفت لاعوجاج أعناقنا... نقذف الآخرين بالحجارة صبح مساء، من دون أن نخشى على بيوتنا الزجاجية.

على مقربة من مخيم الوحدات، حيث نشأت، سكن في بلدة القويسمة على المقلب الآخر من «سكة الحديد»، قومٌ من ذوي البشرة السمراء الداكنة ... كانوا يأتون رجالا وأطفالاً ونساء إلى مخيمنا للتسوق والتبضع ... كنا نطلق عليهم جميعاً اسماً واحداً: «العبيد»، لم تكن بنا حاجة لمعرفة أسمائهم ولا التعرف عليهم .... ذات مرة صافح رجلٌ منهم طفلاً من المخيم، تردد الطفل في مصافحة الرجل، ومن ثم تفقد يده وقلّبها على الوجهين، خشية أن يكون لونها قد تغير.

لم ينهانا أحدٌ عن التلفظ بهذه المفردة الموغلة في عنصريتها، فنحن في الأصل، ورثناها عن الكبار منا ... لم نشعر للحظة بتأنيب ضمير، كوننا نمارس تمييزاً عنصرياً ضد شريك في الوطن وشبيه في الخلق ... الحال في مدارسنا لم يكن يختلف عن الحال في أسرنا وحاراتنا «مرابع طفولتنا» ... رافقتنا هذه النظرة السوداء إلى أن نضجنا وأعدنا «تربية» أنفسنا من جديد ... بعضنا لم يفلح في تخطي حاجز العنصرية الكريه هذا في كبره، برغم نزعاته الإنسانية والقومية واليسارية والأممية.

في الحارة كما في المدرسة والأسرة، لطالما تمردنا على محاولات «استخدامنا» خارج إطار المألوف من المهام الموكلة على عاتقنا في مراحل مختلفة من نمونا ... أما التعبير عن هذا التمرد، فكان يتم باستخدام عبارة «بدّك تستكردني؟!» ... لم نكن نفهم المعنى الحرفي للعبارة، بيد أن دلالتها المجازية، كانت واضحة تماماً في أذهاننا: «بدك تستعبدني؟!» ... إلى أن عرفت في مرحلة متقدمة، أن «استكرد» فعل مشتق من الاسم، أما الاسم هنا، فهو «الأكراد» أو «الكورد» كما يحلو لبعضهم أن يطلق عليهم، وفي مماثلة غريبة وعنصرية، بين أن تكون كردياً وأن تكون عبداً ... لا نتردد اليوم عن التلفظ بكثير من التبجح والادعاء بعبارات تتحدث «الإخوة العربية – الكردية»، ونستذكر صلاح الدين الأيوبي بأصوله الكردية، بعد أن تقدمنا في المناهج التعليمية، لكن كل ذلك، لم يحفر عميقاً في «طبقات اللا وعي» التي تراكمت بتعاقب الأزمان.

العنصرية اليوم، تقفز من الخطاب والسلوك «الشعبيين» إلى الخطاب الرسمي لبعض دولنا وحكوماتنا ... نقرأ في الأخبار عن قوانين في بلدان عربية، تبيح الطلاق، بل وتمنع الزواج، بذريعة «عدم التكافؤ الاجتماعي»، فالعريس أو العروس، ليس من قبيلة يُعتد بها، أو انه صاحب بشرة ذات لون مغاير .... نقرأ في صحافة تلك الدول، انتقادات لاذعة للطرق الالتفافية التي أنشأتها إسرائيل في الضفة الغربية، ومنعت استخدامها على أهل البلاد الأصليين ... هذا سلوك يوصف بالعنصرية، أما ذاك، فيحاط بهالة من التكبير والتهليل للمكارم التي تغدقها دولنا على الضيوف والوافدين إليها، الذين ما كان لواحدٍ منهم أن يصل البلاد ويقيم أو يعمل فيها، من دون «كفيل» من سكانها الأصليين.

ونقرأ في الأخبار، عن جزر القمر، وقلما نقرأ في الأخبار عن هذه البلاد وأهلها ونظام حكمها، لكأنها «زائدة دودية» في الجسم العربي الكبير، لا فرق سيحدث في حال بقائها أو استئصالها ... جزر القمر هذه عرضت مؤخراً استقبال فئة «البدون» المنتشرة في بعض دولنا العربية، وهم قوم عاشوا في هذه الدول لعشرات السنين، وتناسلت منهم أجيال متعاقبة، من دون أن يحظوا بشرف «المواطنة» فيها، أما لماذا تفعل جزر القمر ذلك، فنظير مساعدات مالية واقتصادية لبلد ذي اقتصاد منهك ومتهالك .... لقد اهتدت جزر القمر إلى وسيلة لمعالجة اختناقاتها المالية عبر «استيراد البدون»، أما الدول المصدرة لهم، فقد وجدت مخرجاً لتصريفهم خارج حدودها، إن بالإكراه والضغط أو بالإغراء والحوافز.

مع أننا قرأنا في وسائل إعلام تلك الدول، عبارات التمجيد وصيحات النصر، التي صاحبت انتخاب صادق خان عمدة لمدينة لندن، مع أن الرجل ينتمي للجيل الأول من المهاجرين، وليس إلى الجيل الرابع أو الخامس، وقبل «عمودية لندن» احتل الرجل مواقع برلمانية ووزارية في سن مبكرة ... أما لماذا لا نحذو حذو الديمقراطيات و»دول المواطنة المتساوية» فتلكم قصة تتصل بأنانيتنا وموروثنا القائم على «عصبية الأحساب والأنساب» ... وبمعنى أوسع، إلى مراوحتنا في برزخ ما قبل الدولة الحديثة، وعقدها الاجتماعي المتأسس على مفهوم المواطنة.

والمؤسف أنه كلما لاحت في أفق الغرب واقعة تمييز عربي أو مسلم، تضج مواقع التواصل الاجتماعي بالاتهامات والانتقادات للغرب العنصري الكافر، الكاره للإسلام والمسلمين، للعرب والعروبة .... من دون أن يرف لنا جفن، ونحن نشاهد ونقرأ ونسمع ونمارس، مختلف ضروب التمييز العنصري، لا ضد «الآخر» فحسب، بل وضد أبناء جلدتنا وديننا ووطنا.

omantoday

GMT 13:15 2021 الجمعة ,12 آذار/ مارس

مَنْ ينبش كوابيس الفتنة ؟!!

GMT 08:11 2021 الأربعاء ,24 شباط / فبراير

الأردن و«حل الدولة الواحدة»

GMT 07:47 2021 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

ما الأفضل لفتح: قائمة مـوحـدة أم قائمتان؟

GMT 07:42 2021 الإثنين ,22 شباط / فبراير

«وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ»

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عنصريتنا الطافحة عنصريتنا الطافحة



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab