عريب الرنتاوي
يعيدنا قانون الاجتماعات العامة الذي أصدره الرئيس المصري المؤقت عدلي منصور، إلى واحدة من الصفحات أبشع صفحات قانون الطوارئ زمن الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك ... القانون لا يسعى في "تنظيم الحق" وإنما يعمل على مصادرته وإلغائه، وهو إذ يعطي الأجهزة الأمنية تفويضاَ بالاستخدام المفرط للقوة لقمع التظاهرات المخالفة، فإنه يشرع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.
نعرف أن مصر تعيش وضعاَ استثنائياً، وأن التظاهر في ميدانيها وشوارعها، تجاوز كثيراً من الحدود والسقوف، وأن التظاهر في بعض الأحيان، يخرج عن حدود "السلمية"، دع عنك عمليات التعطيل المتواصل لأشغال الناس ومعاشهم ودراستهم وطرق تنقلهم ... لكن الشعب المصري الذي خرج إلى الشوارع بالملايين، مُسقطاً نظامين عاتيين، ما كان ليفعل ذلك، لو أنه انضبط إلى قوانين الاجتماعات العامة والطوارئ المماثلة، والمؤكد أنه يستحق قانوناً أفضل من هذا، والأكثر تأكيداً، أنه لن يرضخ له، وسينتصر عليه، وقد بدأ بالفعل في التصدي لمن يحاولون اختطاف ثورته الثانية.
على الحكم الجديد في مصر، أن يتذكر صبح مساء، أنه مدين لهؤلاء الشباب والصبايا، الذين خرجوا بالملايين ضد حكم مبارك من قبل، وضد حكم الإخوان من بعد، ضاربين عرض الحائط بقوانين مماثلة، وغير هيّابين لكل أصوات الوعيد والتهديد التي نطقت بها حناجر وزراء الداخلية وقادة الأجهزة الأمنية من قبل، وليس ثمة على الاطلاق، ما يدعو للاعتقاد بأن هذا الشعب الثائر، سيخضع هذه المرة أو يستكين.
لولا خروج المصريين على القوانين العرفية الجائرة منذ زمن "كفاية" والحركات الشعبية والشبابية المُمهدة لثورتي يناير ويونيو، لما آلت السلطة للسيسي أو منصور أو الببلاوي ووزير داخليته "الهمام" ... والأرجح أن اندفاع شباب مصر من جديد للدفاع عن مكتسبات ثورتيهم العظيمتين، سوف تضع الحكم الجديد أمام واحدٍ من خيارين: إما الانكفاء والعودة إلى جادة الصواب، وإما المقامرة بخلق مناخات انفجار "الثورة المصرية الثالثة" التي ستعيد العسكر إلى براكساتهم، وتستنقذ ثورتهم الثانية من محاولات اختطافها بعد أن نجحوا في انتزاع ثورتهم الأولى ممن اختطفها كذلك.
مصر ما زالت أبعد بكثير من أن تستقر على خيار واضح أو سكة مجددة، تحدثنا من قبل عن أجندات ثلاث مصطرعة فوق ترابها وفي شوارعها: أجندة الفلول، أجندة الإخوان وأجندة الحرية والديمقراطية والعدالة والكرامة ... لم تسقط بعد أي من هذه الأجندات الثلاث، وما زالت عمليات الكر والفر بين القوى الحاملة لها والرافعة للوائها، مستمرة في مختلف الميادين، وقد يصبح ميدان طلعت حرب، رمزاً للثورة الثالثة، بعد أن كان التحرير رمزاً للثورة الأولى، ورابعة العدوية رمزاً للإخوان وأجندتهم.
لكن المؤسف حقاً أن أجندتي الفلول والإخوان، تجدان من ينتصر لها من دول الإقليم المقتدرة ... الأولى تدعمها دول خليجية وعربية تتوق لعصر مبارك وتسعى في استرجاعه بأي شكل وثمن، وهي التي رأت في الربيع العربي تهديداً لأمنها واستقرارها وأنماط حكمها اللاديمقراطية ... والثانية، الإخوانية، تجد في قطر وتركيا عوناً لها، في المال والسياسة والإعلام، وهناك من يقول بالسلاح أيضاَ، مع أننا نستبعد هذا الاحتمال ولا نسقطه تماماً ... أما أجندة الشعب المصري، فلا دعم لها سوى من الغيارى على حرية المصرية وتقدمهم وكرامتهم، من قوى التغيير والإصلاح المنتشرة في مختلف الدول والمجتمعات العربية.
بعد ثورتين متتاليتين في عامين اثنين فقط، آن أوان تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود في حركة الشعب المصري وكفاحه من أجل حريته وكرامته ... وأزفت لحظة الفرز بين الأجندات ... فمثلما دفعت الكراهية للإخوان وحكمهم كثرة كاثرة من المصريين للترحيب بحكم الجيش وحمل السيسي على الأكتاف، ودعوته "كمّل جميلك" لتولي الرئاسة، فليس مستبعداً أن تقود خيارات السلطة المصرية الجديدة، المصريين إلى الارتماء من جديد في حضن الإخوان الذين يتحينون الفرصة للعودة إلى الميادين على رأس ائتلافات شعبية أوسع تمثيلاً وأكثر صدقية، لكأنه كتب على هذا الشعب أن يكون بين خيارين أحلاهما مُرّ: الجيش أم الإخوان؟
المصريون الذي استقبلوا جيشهم بالورود والرياحين، فعلوا ذلك لمرحلة مؤقتة وانتقالية ... أما أن يتحول "المؤقت" إلى "دائم" و"الانتقالي" إلى "نهائي"، فهذا ما لم يكن يطرأ على مخيّلة ملايين الشباب المصريين، والمؤكد أنهم لن يرتضوا به، وعلى الحكم المصري الجديد، أن يراجع "الدروس الطازجة" لتجربة نظامين، وأن يقرأ وقائع محاكمات رئيسين حيين، يقبعان خلف القضبان.