عريب الرنتاوي
يستلهم الفلسطينيون أسلوب الوزير جون كيري ومنهجه المُتبع في إدارة المفاوضات، وهم يعملون (أو لا يعملون) على استعادة المصالحة واستئناف جهود استرداد وحدتهم الوطنية ... "الغموض" سيد الموقف، وهو غموض ليس بناء في تجربتي المصالحة والمفاوضات ... "اعتماد التسريبات" بدلاً عن "بيان الحقائق"، وكل ما نعرفه عن المفاوضات والمصالحة، ليس سوى تسريبات لا أكثر ولا أقل ... "القناة السرية" التي شقها كيري بين الفلسطينيين والإسرائيليين كما يقال، توازيها "قناة سرية" بين عزام الأحمد وموسى أبو مرزوق ... "قول الشيء ونقيضه"، وهذا أمر خبرناه طوال جولات كيري العشر، وهو يتكرر الآن مع الفلسطينيين، خالد مشعل يثمن صمود الرئيس عباس في مواجهة الضغوط، فيما قادة من حماس ينددون بنهج السلطة المتخاذل ... الرئيس عباس يرحب بخطوات إسماعيل هنية الأخيرة، فيما أعوانه ومساعدوه، يقللون من شأنها ويعتبرونها "خطوة ناقصة وفارغة من أي مضمون" أو "مناورة" لكسب الوقت لا أكثر ولا أقل... هذا يتحدث عن تقدم في جهود المصالحة يكاد يداني حد "الاختراق"، وذاك ينفي الأمر جملة وتفصيلاً.
حالة من الاضطراب تسيطر على الرأي العام الفلسطيني، مصحوبة بموجة من القلق الشديد على مستقبل القضية والحقوق والكفاح المديد والمرير من أجل الحرية والاستقلال ... هل ستنجح محاولات استعادة الوحدة وإنجاز المصالحة؟ ... هل هناك محاولات جادة وجدية أصلاً؟ ... هل نحن أمام محاولة من حماس لكسب المزيد من الوقت بعد أن بلغ سيف الحصار المصري حد الأعناق؟ ... هل هي محاولة من السلطة وفتح للتلويح بورقة حماس بعد أن لاحت بوادر "انكشاف" مهمة كيري، التي لا تبشر بحل مرضٍ للشعب الفلسطيني وحركته الوطنية؟ ... ما الذي يجري حقاً، وكيف يمكن قراءة الموقف؟
من منظور الفريقين المنقسمين والمصطرعين، لم تعد المصالحة الوطنية، قيمة استراتيجية بذاتها، وهدفاً ينبغي الوصول إليه بصرف النظر عن "توازنات القوى" و"تطورات الإقليم" من حولنا ... المصالحة من وجهة نظر الفريقين، مجرد "ورقة" يمكن اللجوء إليها تلويحاً أو حتى تجسيداً، إن اقتضت الضرورة ذلك.
عندما كانت حماس في أوج انتشائها بالربيع العربي وثوراته وصعود الإخوان إلى سدة الحكم في مصر وعدد من الدول العربية، لم تكن المصالحة قضية تتصدر سلم أولويات الحركة التي كانت تنتظر استتباب الحكم لإخوان مصر، وما يمكن أن يتولد عنه من تداعيات ومفاعيل على الساحة الفلسطينية الداخلية و"توازناتها" ... أما عند انقلب المشهد رأساً على عقب بعد الثلاثين من يونيو/ حزيران الفائت، فقد اختلفت الصورة والمشهد، وباتت المصالحة لحماس، طوق نجاة للخروج من كثيرٍ من الأزمات والاستعصاءات.
فتح في المقابل، لعبت مثل هذا الدور، قبل الربيع العربي وبعده ... اليوم، تريد الحركة أن تستثمر في أزمة حماس، وتستفيد من تراجع مكانة وشعبية إخوان المنطقة ومصر بخاصة، وهي تنتظر حتى تنضج "تفاحة حماس" وتسقط لوحدها عن الشجرة .... لكن كما أن السلطة وفتح، لم تكونا بالهشاشة التي توقعتها حماس المتحمسة لأصداء الربيع العربي وارتداداته، فإن حماس بدورها ليست من الهشاشة بحيث تسقط لقمة صائغة في فم فتح "الكبير" ... ثم أن فتح نفسها، أو تيار من داخلها، بدأ يدرك أو يتحسب للحظة انهيار المفاوضات، لحظة الحقيقة والاستحقاق، أو لحظة القبول بتجرّع السُمّ وقبول أفكار كيري ومبادرته، فأخذت تفكر بان المصالحة، أو التلويح بها يمكن أن يخدم غرضاً تكتيكياً كذلك.
على أية حال، جهود "التقريب بين المذاهب الفلسطينية" لم تتوقف، وقنوات التواصل بين فتح وحماس ليست مسدودة، والطرفان ليسا بحاجة لوسيط أو وسطاء، هذه المرحلة ولّت منذ زمن ... وعندما تصبح المصالحة "مصلحة تكتيكية مشتركة" عند الفريقين، سينطلق قطارها بسرعة أعلى من سرعة القطار الياباني الحديث ... لقد أظهرت تجارب الوساطة وجهود الوسطاء ومبادراتهم، إنه ما لم تتوفر النيّة الحقيقية لدى الفريقين المحتربين للتهدئة و"الهدنة"، فإن المصالحة لن تحدث أبداً.
الآن، وموضوعياً، يبدو أن الأفق الفلسطيني مُحمّل باحتمال كهذا: التقاء المصالح ... حماس في مأزق شديد، وفتح في مأزق لا يقل شدة، وقد يتفاقم في قادمات الأيام فيصبح أكثر استعصاءً من مأزق حماس، وقد يكتشف الطرفان فجأة مصلحتهما المشتركة في المصالحة، حينها سنرى ما لم يكن يخطر على بال أيً منا.