عريب الرنتاوي
في تغطياتها وتعليقاتها على الاستفتاء الدستوري في مصر، خرجت كثير من الصحف العربية بعنوانين من نوع: "الاستفتاء الذي طوى صفحة الإخوان" و "هل انتهى عصر الإخوان"، و"مصر تشطب صفحة الإخوان من تاريخها" إلى غير ما هنالك من عناوين و"نبوءات"، تعكس "رغبة" أصحابها بأكثر مما تعكس حقائق الوضع المصري ومالاته ... وتسيء لثورة الثلاثين من يونيو والنظام الذي جاء بنتيجتها، بأكثر مما تخدمهما أو تقدم لهما نصيحة مخلصة.
صحيح أن الاستفتاء يطوي صفحة من صفحات الأزمة المصرية الممتدة منذ أشهر وسنوات ... وصحيح أيضاً أن ما قبله ليس كما بعده، سيما وأنه سيُستتبع بانتخابات رئاسية وتشريعية في غضون أقل من ستة أشهر ... بيد أن الصحيح كذلك، أن الإخوان ليسوا "مجرد صفحة" من كتاب مصر الحديث لتطوى، وما نراه من حراك سياسي واجتماعي في مصر، ينبئ بخلاف ما يتحدث به أصحاب هذا "التفكير الرغائبي".
إن كان هناك من نصيحة مخلصة يتعين إسداؤها لمختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، فإنها تتمثل أساساً وحصراً في السعي لترتيب البيت المصري الداخلي، بمشاركة الجميع ومن دون استثناء لأحد ... كأن يقال للحكم المصري والرئيس المقبل والحكومة القادمة، بأن طي صفحة القرار بإعلان الإخوان "جماعة إرهابية" هو ما يتعين فعله ابتداءً، ومد اليد لكل الأيدي والأصوات العاقلة التي بدأت تظهر من داخل الجماعة، هو أولوية وطنية لحفظ مصر وصيانة أمنها واستقرارها وضمان مسيرة تحولها الديمقراطي ... لا أحد بمقدوره أن يخرج فريقاً بحجم الإخوان من "المكان" على حد تعبير الشيخ عبد الفتاح مورو من نهضة تونس، لا أحد بمقدوره أن يستأصل حركة بهذا الحجم والتاريخ بجرة "قرار رئاسي" أو بقانون طوارئ أو تعليمات طارئة.
في المقابل، على الإخوان أن يدركوا كذلك، أن ما بعد الاستفتاء ليس كما قبله ... عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، والرئيس المعزول لن يعود إلى عرينه، والمراجعة الشاملة للتجربة والخطاب والممارسة باتت اليوم، مصلحة إخوانية قبل أن تكون مصلحة وطنية مصرية، وإذا كان في "الدولة والمجتمع" المصريين من يسعى لطرد الإخوان من "المكان"، فهناك في الإخوان أنفسهم، من يسعى لطرد الجماعة من "الزمان"، والتعبير أيضاً للشيخ مورو.
والمراجعة مطلوبة من الجميع، وليس من الإخوان وحدهم، فما يحصل في مصر أسقط الكثير من الفرضيات والمسلمات ... رأينا ليبراليين يشيدون بالقبضة الأمنية الحديدة، ويساريين يروّجون للاعتقالات والقتل العشوائي، وقوميون ارتدوا شوفينيين في حملاتهم المكارثية ضد السوريين والفلسطينيين، وإعلام استباح كل المحرمات وسقط في مهاوي الردح والانحطاط، ومثقفون جعلوا من أقلامهم "رصاصاً" في بنادق الجيش والأجهزة الأمنية ... هؤلاء جميعاً يجدر بهم كذلك، إن يجروا أعمق المراجعات وأكثر عمليات النقد الذاتي جرأة، إن هم أرادوا حفظ ما تبقى من صدقيتهم، أو إن هم أرادوا لأحدٍ أن يصدقهم، ولا أريد أن أقول إن هم أرادوا لقطار التحول الديمقراطي أن يخرج من محطة الجمود والانتظار المصرية.
نريد أن نرى أو أن نسمع أحداً في مصر، يخرج علينا ببيان تصالحي، يسعى في استعادة ألق 25 يناير وبريقها الذي خطف أنظار العالم بأسره ... نريد لمصر أن تغادر ثقافة "الزعيم الأوحد" و"القائد المنقذ" و"المستبد العادل" إلى ثقافة الدولة المدنية والمؤسسات والعمل الديمقراطي والتعددية واحترام مختلف المكونات ... يستوي في ذلك إخوان مصر مع خصومهم ومجادليهم.
نريد من الإخوان، التوقف من دون إبطاء عن "استنزاف" قواهم وشوارعهم وعن استنزاف المصريين في حياتهم اليومية، في معركة عبثية لا طائل من ورائها ... نريد لهم عدم الانزلاق في "المكابرة" وفقدان الاتجاه والاستعانة بكل شياطين الأرض، من داخل مصر وخارجها لـ "إثبات وجهة نظرهم" ... مثل هذا الوضع إن استمر، سيقضي على البقية الباقية من قواهم الذاتية وصدقيتهم ومن التفاف الناس من حولهم، وآمل حقيقةً أن يدركوا سريعاً أن ما حدث في 30 يونيو لم يكن من صنع "الفوتوشوب" وأن الإقبال على الاستفتاء لم يكن مسرحية سمجه كتب فصولها واخرجها وتولى دور البطولة فيها الجنرال عبد الفتاح السيسي ... ما حصل في عام حكم الإخوان، أخطر من ذلك وأعمق، ونقطة البدء في المراجعة تبدأ بسؤال: بم أخطأنا؟، وليس بالسؤال عن "المؤامرة" والمتآمرين وماذا فعلوا ودبروا في ليل بهيم؟
على أية حال، لا الاستفتاء ولا الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ولا خريطة الطريق بمختلف فصولها وعناوينها ستنهي الإخوان أو تطوي صفحتهم ... وسيأتي اليوم، ونأمل ألا يكون بعيداً، حين يدرك الجميع أن لا ديمقراطية من دون الإسلاميين، وأن لا ديمقراطية إن ظل الإسلاميون على خطابهم "الماضوي" العتيق، وأن "كلمة السواء" بين مختلف الأفرقاء، إنما تتجلى في التوافق العريض والعميق حول قواعد اللعبة السياسية ومبادئ حقوق الإنسان، ونظام الحكم في مصر ... فهل سيعود صوت العقل والمنطق ليعلو من جديد، بعد أن يهدأ أزيز الرصاص وثرثرة الفضائيات على ضفاف النيل؟