عريب الرنتاوي
مثلما ظَهّرت التجربة المصرية (ما بعد الثلاثين من يونيو) هشاشة التكوين الديمقراطي لليسارين والليبراليين والقوميين (العلمانيين) من مصريين وعرب، فإن التجربة التركية في عامها الأخير تحديداً، قد أسهمت في تظهير هشاشة وسطحية "المكون الديمقراطي" في خطاب كثير من حركات الإسلام السياسي العربية ... لتكون النتيجة في المحصلة النهائية، أن الديمقراطية هي "الفريضة الغائبة" عن مختلف تيارات الفكر والسياسة في عالمنا العربي.
نتفق مع بعض الإسلاميين بأن كثرة كاثرة من القوى والأحزاب والشخصيات والمؤسسات المدنية الديمقراطية والليبرالية والحقوقية المصرية بخاصة، قد سقطت في اختبار يوليو، وانكشفت حقيقة كونها "ملاحق" تحاول البقاء والنمو على جذع المؤسسة العسكرية و"القائد الضرورة" والجنرالات العابرين للحقب والطبقات والمصالح الأنانية ... دعمت هذه التيارات كل الإجراءات اللاديمقراطية، بل والمعادية للحقوق والحريات، وتحت شعار "رفض الأخونة والتمكين"، انخرطت في "حفلات ردح وجنون" لا تنسجم أبداً مع ادعاءاتها عن نفسها (ولا أقول صورتها عن نفسها) التي سعت في تكريسها لأكثر من عشرين أو ثلاثين عاماً، بل ووصل بها الابتذال حد تبرير اطلاق النار على المتظاهرين وحظر التظاهرات المعارضة والزج بالناس في المعتقلات والانخراط بنشاط في حملات "كمّل جميلك" إلى غير ما هنالك.
لكن في المقابل، وبنفس الدرجة من الحماسة، حتى لا نقول الابتذال، رأينا شخصيات وحركات وأحزاب إسلامية، طويلة وعريضة، لا تكف عن تمجيد أردوغان وحكومة العدالة والتنمية في تركيا، حتى وهي تطلق النار وخراطيم المياه على المتظاهرين السلميين في تقسيم، وتغرق في أكبر فضيحة فساد في تاريخ تركيا، وتقود أبشع حملات تطويع القضاء وضرب الإعلام واحتواء المعارضة، بل ويعتبر هذا التيار أن مجرد الحديث عن فساد في محيط أردوغان، ضرباً من "التحريض المتهافت" والتجني على الحقيقة والتآمر على تركيا، لا تعنيهم تقارير منظمات حقوق الإنسان ولا رأي المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني ولا يتوقفون عند بيانات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ما يقوله أردوغان عن نفسه وحكومته وحزبه وعائلته، هو الحقيقة المطلقة، وكل ما عداها باطل، وحيث يكون الرجل تكون "الشرعية" ويكون "الحق" وبخلافه باطل وزائف، بل وحرب على الإسلام والمسلمين، وتساوق مع المواقف والمصالح الإسرائيلية
علمانيو مصر ومدنيوها (ليس جميعهم بالطبع)، يشنون أقذع الحملات على "السلطان العثماني الجديد" ويذرفون الدموع مدراراً على مالات الديمقراطية في تركيا، أما ما يجري في مصر، فهو "خريطة طريق للمستقبل"، وكل ما تفعله القيادة المصرية وأجهزتها المدنية والعسكرية مباح وحلال وضرورة، بما في ذلك حملة الشيطنة لثورة "25 يناير"، واعتقال رموزها وكوادها ومفجريها، وحتى لو تسببت هذه المواقف في دفع ملايين الشبان والشابات للعزوف عن المشاركة في الاستفتاء الأخير على الدستور تعبيراً عن الإحباط والاحتجاج، إنهم ديمقراطيون في تركيا وأعداء لها في مصر.
في المقابل، لا يرى إسلاميو بلادنا ما يعكر صفو الديمقراطية في تركيا، بيد أنهم يشنون أقذع الحملات ضد الديكتاتور والجنرال والانقلاب والانقلابيين في مصر... إنهم ديمقراطيون (أدعياء ديمقراطية) في مصر وأعداء لها في تركيا، والديمقراطية في حالتي العلمانيين والإسلاميين، براء منهم، لأنها ببساطة ثقافة وسلوك وتربية غير قابل للتجزئة والتقسيم والمعايير المزدوجة، بل وغير مشروطة باعتبارات واهية كتلك التي نسمعها من الطرفين في سياق تبرير مواقفهما.
إسرائيل تحضر بقوة في التجربتين ... الإسلاميون يرون أن "العدو الصهيو – أمريكي" هو من يتصيد للإسلام والإسلاميين وخليفتهم في الأرض: رجب طيب أردوغان وحزبه وحكومته، ويدعم الديكتاتور في انقلابه على الشرعية في مصر ... فيما خصومهم من العلمانيين، يرون أننا أمام حلف "صهيو – أمريكي – عثماني – سلجوقي" يستهدف بلادنا العربية في سوريا ومصر بشكل خاص، ويدعم الإرهاب والإرهابيين، ويتآمر على مصالح الأمة تحت شعارات زائفة وأقنعة لم تعد تقنع أحدا، في مسعى مستميت لتبرير الديكتاتورية واستعادة غير موفقة لشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، والمعركة اليوم ضد جزء من الشعب والشركاء في الوطن والمواطنة.
في كلتا التجربتين، تسقط الديمقراطية على مذبح الانحيازات السياسية والفكرية والمصالح الأنانية الضيقة .... في كلتا التجربتين، يظهر بقوة أننا جميعاً نمتهن الحديث المنمق عن الحرية والحقوق والديمقراطية، فيما نحن أبعد ما نكون عن مبادئها وقيمها وثقافتها، ويثبت مرة أخرى من التجربتين: أن لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين، فأين هم في العالم العربي، وزد على ذلك، أين هم في تركيا كذلك؟