عريب الرنتاوي
حين يُلقي السيد جون كيري باللائمة على الفلسطينيين والإسرائيليين فيما آلت إليه جهوده لإنقاذ عملية السلام، فإنه بلا شك، يقارف جريمة بحق "صدقيته" الشخصية ومصداقية إدارته، فهو يعرف تمام المعرفة، مثلنا وأكثر منا، أن إسرائيل هي من أطاح بجهوده، وان حكومة نتنياهو هي من بدأ سياسة "الخطوات أحادية الجانب"، وأن اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل، هو من خرق التفاهمات المبرمة، وضرب عرض الحائط بالاتفاق الذي بموجبه، بدأ كيري مشواره نحو المفاوضات.
أما أن يضع السيد كيري، القرار الفلسطيني بتوقيع 15 اتفاقية ومعاهدة دولية، في مصاف الخطوات الأحادية الجانب، وعلى قدم المساواة مع سياسات الاستيطان والضم والتهويد الزاحفة، فهو إمعان في "التغطية" على الغطرسة والعنجهية الإسرائيليتين، فالفلسطينيون لم يفعلوا ذلك، إلا بعد أن أعيتهم الحيلة والوسيلة، للوصول بمهمة كيري إلى "اتفاق الإطار"، والإسرائيليون لم يستبقوا وسيلة إلا ولجأوا إليها، لخنق الفلسطينيين ووضعهم في أضيق الزوايا ... وشتان بين فعل إسرائيلي مُدبّر في ليل بيهم، هدفه قضم الأرض والحقوق والقدس والمقدسات حتى وإن ذهبت جهود كيري إلى الجحيم، وبين "رد فعل" فلسطيني متواضع ومدروس، على الانتهاكات الإسرائيلية للمرجعيات والاتفاقات المبرمة ... لا يستوى التصرفان أبداً، إلا في عيون لا ترى سوى مصالح إسرائيل وتفوقها، ومن بعدها الطوفان.
ينسي كيري، أو بالأحرى يتناسى، أنه فشل في إقناع نتنياهو بالقبول بأفكاره ... ينسى أن رئيسه، سيد البيت الأبيض، رضخ أمام تعنت نتنياهو وعاد "للحس" كل ما قاله في القاهرة عن الاستيطان والمستوطنات ... نسي أن كل جولة من جولاته في المنطقة، كانت تُستبَق، بموجة جديدة من المستوطنات ... نسي المماطلة الإسرائيلية التي توّجت برفض الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى والمعتقلين ... نسي أو تناسى، أن هذا القرار، فضلاً عن إعادة طرح عطاءات استيطانية واسعة في القدس وجوارها، هو ما أطاح بمشروع اتفاق كان سيرى النور في آخر جولات كيري ... ولكن مع ذلك، يخرج علينا الوزير وأركان الإدارة بتصريحات، تضع الفلسطينيين والإسرائيليين في سلة واحدة، وتقيم تماثلاً تعسفياً، بين فعل ممنهج، استعماري، توسعي وعدواني، وبين رد فعل دفاعي، ينسجم أتم الانسجام، مع الاعتراف الأممي بدولة فلسطين والشرعية الدولية.
لكننا ونحن نشعر بالضيق من "النفاق" الكامن تحت عباءة التصريحات "المتوازنة"، لا نقوى على مقاومة الرغبة الملحة للمقارنة بين اليوم والأمس، وأمس هنا يعود إلى زمن كامب ديفيد، حين اهتاجت الإدارة الأمريكية ضد الرئيس الراحل ياسر عرفات، وانحازت بالكامل للجنرال الغارق في غيّه وتيهه: إيهود باراك ... يومها صُوّر رئيس الحكومة الإسرائيلي كبطل للسلام وحمامة له، وبات ياسر عرفات "رجلاً ليس ذي صلة"، إلى أن أعادت إسرائيل احتلال الضفة الغربية من جديد، وحاصرت المقاطعة واغتالت ياسر عرفات.
الصورة اليوم مختلفة كثيراً ... المزاج الدولي ليس في صالح إسرائيل ... لكن واشنطن ما زالت محكومة بضغوط "اللوبي اليهودي" وجماعات المصالح المؤيدة لإسرائيل ... ما زالت سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، خاضعة للابتزاز والإملاءات الإسرائيلية ... وهيهات أن تجد مسؤولاً أمريكيا يجرؤ على الكلام، أقله وهو في مواقع السلطة، فغالباً ما تنفك عقدة لسان المسؤول الأمريكي وهو يكتب الأسطر الأخيرة في سيرته الذاتية، حيث لا تنفع "الحكمة بأثر رجعي".
ونأسف أننا لا نسمع صوتاً عربياً قوياً، يطلب إلى واشنطن تسمية الأشياء بأسمائها ... لقد كانوا "أسوداً" في التجييش ضد التقارب الأمريكي مع إيران، ولم يتوانوا على نقد واشنطن وأحياناً "تهديدها"، إن هي أغمضت الأعين عن "جرائم" نظام الأسد ... لكنهم حين يتعلق الأمر بالصراع العربي – الإسرائيلي، يتحولون فجأة إلى حمائم وعقلاء وحكماء، يمارسون الضغط على الجانب الضعيف، بدل التصدي لغطرسة الجانب القوي والمعتدي والمنحاز ... يلقون على القيادة الفلسطينية دروساً ومواعظ في "الحكمة" و"العقلانية" و"التبصر"، وهم الذي لم تأت سياساتهم سوى بالخراب العميم في المنطقة العربية، من ليبيا إلى سوريا مروراً بمصر وليس انتهاء بالعراق واليمن.
نأسف أننا لا نرى الجامعة العربية تستعد لتسيير الوفود إلى واشنطن لدفعها والضغط عليها، لمعاقبة المتسبب في الإطاحة بمهمة جون كيري، وتوفير شبكة أمان للسلطة والمنظمة والشعب الفلسطيني، تساعده على مجابهة موجة الضغوط التي يستعد الكنيست والكونغرس لفرضها على الشعب الفلسطيني ... نأسف أن مليارات الدولارات التي تذهب لتدمير سوريا والعراق وليبيا، لا تضل طريقها إلى فلسطين، علّها تساعد الصامدين على أرضهم في تعزيز صمودهم وتدعيم مقاومتهم للاحتلال والعدوان والاستيطان.
لكن الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية المعاصرة، التي خبرت كل الظروف والأزمات، قادرة على الخروج من هذا النفق، واستئناف مسيرة الكفاح المديد والمرير، من أجل الحرية والاستقلال، وما نشهده من إرهاصات تنامي المقاومة الشعبية في الضفة والقطاع وداخل الخط الأخضر، كفيل ببعث نسمات الأمل والتفاؤل، وإن غداً لناظره قريب.