كان الصدور المنتظم والطباعة الأنيقة لصحيفة «الجماهير» الناطقة باسم الحزب الشيوعي الأردني، أمراً مثيراً للدهشة والإعجاب ... كنت أعجب كيف أمكن لـ»الرفاق» أن يتوفر على هذه «المنظومة السرية» التي جعلت أمراً كهذا، بعيداً عن أعين الفضوليين، وكيف أمكنهم حفظ هذا «الكنز» برغم الانهيارات التي كانت تصيب عدداً من كوادرهم القيادية في أقبية الاعتقال والسجون، وحالات «البراءة والاستنكار» التي تنشرها الصحف، بصورة متكررة.
المنشقون عن الحزب، جماعة «الكادر اللينيني» أو «السلافتة» نسبة إلى فهمي السلفيتي، كانوا بدورهم يصدرون صحيفة لهم، أقل انتظاماً بشكل واضح، ومطبوعة على «الستانسل»، أي أقل أناقة وعدداً مما كان بمقدور الحزب الأم أن يفعله ... لكن الخلاصة التي تعلمتها من تجربة الحركة الشيوعية الأردنية، أكثر من غيرها، وقبل غيرها من الحركات والتيارات، كانت تتركز حول أهمية «الجريدة» في حياة الحزب وكفاحه، لتتعزز هذه القناعة لدي، عندما قرأت عن «الإيسكرا» ولينين، والجريدة و»حفنة الثوريين المحترفين» وكيف أنه تعهد بهذه الأدوات، تغيير وجه روسيا.
تعلقت بالحرف المطبوع على استحالته في تلك الفترة، وبدا أن حصولنا على وسيلة لنقل أفكارنا مكتوبة إلى عدد أكثر من الناشطين، حلماً عصياً على التحقيق ... وأذكر ذات مرة، أن عبد الله حمودة، وكنا نناديه «أبو الرائد» حمودة اختصاراً وتمييزاً له عن «أبو الرائد» زعيتر، عبد الله زعيتر، أحد الكوادر القيادية «المتنحية» في الجبهة الشعبية في تلك الفترة، والذي أخفقت محاولاتنا معه لإعادة تنشيطه وإدماجه في العمل السياسي / الحزبي... أقول إن حمودة، طلب إليّ وأنا في سنتي الجامعية الأولى، أن أعد «دراسة/ ورقة» عن وضع الحركة الطلابية في الجامعة الوحيدة في البلاد، وما تجابهه من مشكلات وتحديات، وكيف يمكن النهوض بها... لم أتردد كثيراً وطويلاً في الاستجابة لطلبه، فقد كانت فرحتي عظيمة بوعده لي طباعة الورقة ونسخها وهذا ما حصل عندما زودني بعدد من النسخ المصورة على «أوراق ناعمة وشفافة»، قمت بتوزيعها على عدد لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة، مزهواً بدخولي عالم «الكلمة المطبوعة».
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد استجبت مباشرة لطلب مراسل صحيفة «الأخبار» اليومية (يؤسفني أنني لم أعد أذكر اسمه) التي كان الزميل العزيز راكان المجالي يرأس تحريرها قبل أن تُغلق ويُسحب ترخيصها، أقول استجبت لطلبه بكتابة مقالة للنشر في صفحة طلابية،لست أذكر إن كانت يومية أم أسبوعية، كانت الجريدة تخصصها لتناول مشكلات الجامعة، تحدثت فيه عن «مطاعم الجامعة وكفتيرياتها»... شعرت بكل الفخر عندما رأيت المقال مذيلاً باسمي، واشتريت معظم إن لم أقل جميع، أعداد ذاك النهار التي وصلت إلى كشك بيع الجرائد قبالة بوابتها الرئيسة، وحرصت على إيصال الجريدة لمن كنت مهمتاً بإثارة إعجابهم، أو بالأحرى، إعجابهن.
سيداهمنا يوم الأرض في الثلاثين من آذار عام 1976، ونحن مجردون من «مدفعيتنا الثقيلة» وهو التعبير الذي كنا نصف به «جريدة الحزب»، في دلالة على أهميتها الاستراتيجية ... وسيسعى صديقنا أبو حسن درويش، على تأمين بضع عشرات من بيان صادر عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطيني – فرع الأردن في تلك المناسبة، لم تكن تسمن أو تغني من جوع ... لكن ذلك لن يقعدنا، فبدأنا العمل في «ربع الساعة الأخير» لتخليد تلك اللحظة، و»قرارنا» أن عمان أولى بالتضامن مع الأهل في فلسطين من غيرها من العواصم العربية، وسنحرص على جعل هذا التضامن يأخذ طابعاً شعبياً، وليس رسمياً فحسب، على الرغم من قوانين الطوارئ وحظر الأحزاب وقيود العمل السري.
سيتولى غازي رشراش هديب الذي سيصبح لاحقاً، غازي الخزاعلة، ومعه فرج أبو شمًالة وشقيقه الذي يصغره سناً بعدة سنوات، فايز أبو شمّالة، ومعهم «خفيف الظل» «ثقيل الوزن» حسن مطر، وآخرون يبدو أن الذاكرة ستخونني مجدداً في استرجاع صورهم وأسمائهم، سيتولى هؤلاء أمر تدبير «محور الهاشمي» وكلية الحسين الثانوية التي كان لها بعض من نفوذ ... وسيتولى أحمد داود ومعه حفنة من الرفاق محور «الوحدات – الأشرفية» مع تركيز خاص على ثانويتي حسن البرقاوي وسعيد الدرة ... وسوف يتعين على الرفيقة عبلة طه، تأمين حشد نسائي يهبط إلى وسط البلد من منطقة الأشرفية – التاج ... أما التحرك الرئيس فسينطلق من الجامعة الأردنية، حيث مركز ثقلنا الأساسي، إلى نقطة الالتقاء في المنطقة الممتدة ما بين المسجد الحسيني ومنطقة سينما الحمراء المكتظة بالمتسوقين من سوق الخضار والمصطفين على طوابير الباصات والسرفيس في محيط سقف السيل.
أعددنا اليافطات والأعلام، قبل وقت كاف، وتدبرنا أمر إدخالها إلى الجامعة والمدارس، وبالفعل، أمكن لبضعة عشرات من الطلبة أساساً، الخروج من جميع نقاط الانطلاق، لكن أمر وصولهم إلى «نقطة المصب»، جماعات كان شبه مستحيل، بعد أن تصدت لهم قوات الأمن، لكن ذلك لم يمنع من التقائهم فرادى على أمل أن يعاودا المحاولة، ولكن من دون جدوى ... لننخرط في جدل طويل وعريض، حول الدروس المستفادة من تجربة أول يوم أرض، ويمكن القول إن تلك التجربة على تواضعها، شحنتنا بطاقة وزخم لا نظير لهما، وأكدت لنا ما كنا نعرفه عن أهمية امتلاك مطبعة وإصدار «جريدة» وبيانات للتوزيع على أوسع نطاق، بوصف ذلك جزءاً لا يتجزأ من عملية الإعداد الجيد والتحضير المطلوب لأي تحرك جماهيري.
سأتعرف في سنتي الدراسية الثانية في الجامعة على راسم الهندي، الذي سيعرفني بدوره على المرحوم محمود النويهي، والاثنان سيمضيان فترة طويلة في السجون بعد عامين أو ثلاثة أعوام، على خلفية اتهامها بإلقاء قنبلة يدوية على مكتب «شركة مصر للطيران» في شارع السلط، قبالة المحكمة، احتجاجاً على زيارة السادات لإسرائيل في العام 1977، وسأسمع منهما الكثير عن «جبهة التحرير الفلسطينية» وعبد الفتاح غانم على وجه الخصوص، وهي الفصيل الذي انشق عن الجبهة الشعبية – القيادة العامة برئاسة أحمد جبريل، بسبب اصطفاف الأخير خلف النظام السوري عندما اجتاحت قواته لبنان واشتبكت في معارك دامية مع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، انتصاراً لحزب الكتائب والأحرار، أو من كان يطلق عليهم في ذاك الوقت: «الانعزالية المارونية».
سأفاتحه بأمر المطبعة وكيف يمكن الحصول عليها، وتأمين المال الكافي لشرائها، فيعرض عليّ السفر إلى بيروت، واللقاء بعبد الفتاح غانم، وهذا ما كان، بعد أن تولى هو أمر الترتيب للقاء عبر قنوات الاتصال الخاصة به ... وفي مكتب مطل على قاعة جمال عبد الناصر – جامعة بيروت العربية،انعقد اللقاء مع الرجل الذي اهتم بمعرفة كافة التفاصيل عن مجموعاتنا قيد «التململ»، ويبدو أن راسم كان وضعه في صورة نشاطنا، وربما بقدر من المبالغة، كما اتضح في حديث الرجل عنا، وكان كريماً في عروضه بدعمنا، لكنه فوجئ بأنني أطلب ثلاثمائة دينار أردني فقط، هي ثمن الآلة الكاتبة، التي كنت أتطلع لشرائها، وكنت أجريت قبل سفري، بحثاُ استقصائياً عن كافة أنواع هذه الماكينات في السوق المحلية وأسعارها وخصائصها ومزاياها ... يبدو أن الرجل «صُدم» بتواضع طلباتنا، فأوعز بتأمين المبالغ مباشرة.
عند وصولي إلى بيروت، كان جواد البشيتي قد سبقني إليها، بعد أن فشلت محاولته «إشعال ثورة بروليتارية» في مصر، التي ذهب إليها طالباً بعد تخرجنا من الثانوية ... جواد سيعرفني على «أبو الفدا» جابر، وهو من عمومة رفيق جواد الشهيد ورياض جابر، منفذا عملية الامبسادور في القدس، و»أبو الفدا» كان كادراً قيادياً في الجبهة الشعبية، مقرباً من وديع حداد، وهو سليل عائلة خليلية، انتمى معظم أبنائها إلى الجبهة الشعبية، حدثته عن «الآلة الكاتبة» فسخر مني، إذ لا قيمة لها من دون «الستناسل»، التي وحدها بمقدورها تأمين مئات وألوف النسخ من البيانات ... أحبطت للحظة وأصبت بخيبة أمل صاعقة، قبل أن يعدني بتأمين واحدة لنا، وفي عمان، لأعود لاستلامها، بعد أسابيع قليلة من تلك الزيارة، من محل لتنجيد الكنبات في طلوع شارع الأمير محمد المفضي إلى الدوار الثالث في جبل عمان، بعد أن كنا قد استأجرنا لها بيتا «سرياً» في المكان الذي كان معروفاً باسم «جسر النور»، وفيه وضعنا «الآلة الكاتبة» التي كنا اشتريناها من وسط البلد، وبدأنا بتخزين «مواعين الورق» والأحبار اللازمة ... فساعة الصفر لتشغيل «المدفعية الثقيلة» كان تقترب بسرعة غير متخيّلة.
المصدر : جريدة الدستور
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع