من منزل في «بربور» إلى مكتب في «البربير»

من منزل في «بربور» إلى مكتب في «البربير»

من منزل في «بربور» إلى مكتب في «البربير»

 عمان اليوم -

من منزل في «بربور» إلى مكتب في «البربير»

بقلم :عريب الرنتاوي

في الزاوية المقابلة لجامعة بيروت العربية، تعرفت إلى «مقهى أم نبيل»، كان مقهى متواضعاً تديره سيدة أربيعية، أسمينا المكان على كنيتها، كانت تعد أفضل قهوة صباحية، وبنكهة منزلية كنا قد بدأنا نفتقدها ونحن إليها، رغم أنني شخصياً لم أكن قد قضيت بضعة أشهر في بيروت ... كان داود الزاوي، الذي سيشتهر لاحقاً، كشاعر وكاتب ومثقف فلسطيني باسم زكريا محمد، يتردد عليها باستمرار كذلك، وكنا نقضي أوقاتاً طويلة في نقاشات وسجالات لا تتوقف ولا تنحصر بموضوع.

ذات صباح، وبينما كنت جالساً على طاولة على رصيف المقهى، أقلب السفير والنهار (أحسب أنني تعلمت المواظبة على قراءة الصحف في ذلك المكان)، فإذا بشاب نحيف، داكن البشرة، شعره مسترسل، وشاربه يلامس أسفل شفته السفلى، يمر مسرعاً، حاملاً على كتفه «حقيبة يد» من النوع الدارج في تلك الأيام ... إنه يحيى النعيمات، لم أصدق عينيّ، فأنا بالأصل لم أكن أعرف أنه في لبنان، فقد غادرنا قبل عدة أشهر، ومن دون استئذان أو إشعار... ناديته وانعقد لسانه بدوره من شدة المفاجأة ... سألته عن أحواله، فأجابني أنه قضى ليلته في الاتحاد العام لطلبة الأردن، عند محجوب الروسان، وأنه يقضي جل وقته في قواعد المقاومة في جنوب لبنان ... كانت فترة صعبة في حياته، لم يكن قد تمكن بعد، من الاندماج في البيئة اللبنانية الصعبة، لم يحصل على عمل، ولم يحظ بفرصة للبوح عن ملكاته وقدراته كصحفي محترف وشاعر مرموق.

بخلاف يحيى، الذي سيُعرف لاحقاً باسم أمجد ناصر، كنت قد حظيت فور وصولي، وبسبب علاقات سابقة كنت نسجتها مع بعض الشخصيات النافذة في الفصائل الفلسطينية، بشقة مفروشة من غرفتين وصالة ومطبخ وحديقة صغيرة في منطقة «بربور»، مقابل مسجد جمال عبد الناصر على كورنيش المزرعة، كنّا نتندر على اسم المنطقة، كأن يقول أحدنا للآخر «زحلق إلى البيت»، وكنت أقيم فيها لوحدي، عرضت عليه مشاطرتي السكن، فاستجاب دون تفكير أو تردد ... وستصبح هذه الشقة، وصاحبتها السيدة البيروتية الفضولية «أم العبد»، ملاذاً لعدد كبير من المناضلين الذين سيغادرون الأردن تباعاً، ومن بينهم، اثنان من أبناء عمومة يحيى هما: سميّه يحيى النعيمات «جونيور» والمرحوم هاني النميري، فضلاً عن زهرة المعاني وابنتيها، نيفرتيتي ومنى.

ما أن استتبت لنا الإقامة في «منزل بربور»، حتى اندلعت معارك طاحنة بين وحدات الجيش السوري المنضوية في إطار قوات الردع العربية، أو بالأحرى، المحتوية على قوات الردع العربية، وستتاح لنا الفرصة لمعايشة فصلٍ دامٍ من فصول الحرب الأهلية اللبنانية لم يبق سلاح ثقيل أو متوسط أو خفيف لم يستخدم، وكانت «ثكنة الفياضية» حيث تتمركز قوة مهمة من الجيش اللبناني الموالي للجانب المسيحي في الانقسام الأهلي، عنواناً رئيساً للأخبار والتقارير الصحفية لعدة أيام متواصلة.

كان الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، قد زار إسرائيل، لتنقسم المنطقة من بعد تلك الزيارة إلى محاور متصارعة كعادتها، وتتشكل «جبهة الصمود والتصدي العربية» التي ضمت إلى جانب سوريا والعراق، كلا من ليبيا ومنظمة التحرير الفلسطينية، ولتحظى بتأييد من الجزائر واليمن الجنوبي آنذاك ... يومها، طويت صفحة الصراع الفلسطيني – السوري، التي فُتحت إثر التدخل العسكري السوري في لبنان، ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، ودعماً للجبهة اللبنانية، أو ما كان يعرف باسم «الانعزالية المارونية»... بدأ المسيحيون في لبنان يتحسبون من انقلاب المشهد وتغيير المعادلات، وبدأوا يعبرون عن ضيقهم بالوجود العسكري السوري في مناطقهم، ومنذ ذلك التاريخ، وهم في صراع لإخراج السوريين من «المنطقة الشرقية» وجوارها، إلى أن تحقق لهم ما أرادوا، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

وستندلع أول حرب إسرائيلية – فلسطينية بعد أشهر معدودات من وصول المجموعة الأردنية إلى بيروت، وستأخذنا «الحمية» للالتحاق بفصائل المتطوعين لقتال إسرائيل، ولأنني ذي وضعية سياسية متقدمة، فلم يكن يليق بي أن أكون مجرد متطوع، فتوليت قيادة فصيل عسكري في زمن اجتياح آذار 1978، مع أنني لم أكن قد أطلقت رصاصة من مسدس.

ولكي لا تأخذني المفاجأة، لجأت إلى مكان قصي في استاد رياضي قيد الانشاء، وأخذت أطلق النار لكي تعتاد أذني على صوت الرصاص ... لكن قائداً عسكرياً فلسطينياً، اكتشف أمري، عندما أوقف حاجزا للكفاح المسلح، الفصيل الذي أقوده، وبعد أن عرف المهمة التي أتولاها، سألني مستنكراً، وكيف تخرج بفصيل سيرابط على البحر قبالة الزوارق الإسرائيلية، وليس من بين أفراده من يرمي على «الآر بي جيه»، وليس لديكم رشاش ثقيل أو متوسط ... خجلت من «ديمقراطيتي» و»انعدام خبرتي» وعدت أدراجي، طالباً تعزيز الفصيل برماة «آر بي جيه» و»دوشكا»، ولا أدري إن كان من حسن طالعي أم من سوئه، أننا لم نشتبك مع أي إسرائيلي في تلك الحرب.

وسوف نختبر في لبنان، قصة ارتقاء أول شهيد من معارفنا المقربين جداً في حرب الاجتياح ... إنه الشهيد جهاد حمو، العضو القيادي في جبهة التحرير الفلسطينية، الذي استشهد برصاص «حاجز إسرائيلي طيار» وهو في طريق العودة من الجنوب إلى بيروت، لم أعرف جهاد في مخيم الوحدات رغم أن منزل والديه لا يبعد سوى ثلاثمائة متر عن منزلنا، عرفت أخاه عارف حمو، ربما لأنه كان يكبرني سنّاً ... كان صديقاً مقرباً من زهرة المعاني، ولطالما زارنا في «منزل بربور»، ولقد عرفني عليه كذلك، عبد الهادي النشاش، الصديق القيادي في جبهة التحرير الفلسطينية آنذاك، الذي غادر الأردن إلى لبنان، قبل أشهر قلائل فقط من وصولي إليها في نهاية العام 1977. 

وسيكون لي موعد آخر في «مقهى أم نبيل»، فذات صبيحة في مطلع العام 1980، وبينما كنت أمارس هوايتي في احتساء قهوة السيدة النبيلة، متصفحاً السفير والنهار، فإذا بالمرحوم ميشيل النمري، شقيق الصديق جميل النمري، الذي كنت تعرفت إليه عن طريق أمجد ناصر، يمر قبالة المقهى وقد بدا في عجلة من أمره، طلب إلي أن ألحق به، وأن أنهي فوراً طقوس القهوة والصحف الصباحية، فلديه موعد مع السيدة سلوى البنا، وهي كاتبة وقاصة أردنية، كانت تمتلك وتدير مكتباً للخدمات الصحفية، أسمته «منار برس» في منطقة «البربير»، وسيعرض علي ميشيل أن أعمل معه في الصحافة، رفضت وقاومت، على اعتبار أنني لست صحفياً، ولم أفكر يوماً في العمل بالصحافة والإعلام ... لكن أمام إصراره، قررت أن التحق به متردداً ومذعوراً، فالرجل سيزج بي في أتون معمعة حامية الوطيس، وأنا مجرد تماماً من أسلحتها.

طوال الطريق من مقهى أم نبيل إلى مكتب المنار برس، والرجل يعمل على تهدئة روعي، ويسعى في تبسيط المهمة أمامي، ووعدني بأنني في غضون أشهر قلائل فقط، سأصبح صحفياً محترماً ... قدمني إلى السيدة سلوى، وعرفت من خلال أحاديثهما أنها على صلة قرابة لصيقة بصبري البنا «أبو نضال» (أبنة أخيه على ما أظن)، الشهير باغتيالاته المتكررة لقيادات وسفراء فلسطينيين، ومن سخريات القدر، أن «أبو نضال» سيكون لاحقاً، المتهم الرئيس باغتيال ميشيل النمري في أثينا بعد عدة سنوات من ذاك اللقاء.

لم يتعامل ميشيل معي كصحفي متدرب، ففي اجتماع التحرير الذي أصر علي أن أحضره، كلفني بإعداد تحليلات سياسية وإجراء مقابلات مع سياسيين لبنانيين وفلسطينيين... وكانت سعادتي بالغة برؤية ما أنتجه من مواد، منشوراً على صفحات «السياسة» الكويتية» والرأي الأردنية، وغيرها من صحف خليجية، كانت منار برس قد تعاقدت معها لتزويدها بالأخبار والتقارير والمقابلات من لبنان.

وستتاح لي في منار برس أن أعمل مع الكاتب الصحفي والمثقف اللبناني الصديق جورج ناصيف، وأن أتعرف على الصحفية اللبنانية، اليسارية سابقاً، فاطمة حوحو، قبل أن تنتقل إلى جريدة المستقبل الناطقة بلسان تيار الحريري ... وستتكون خبرتي الصحفية في الفترة القصيرة التي قضيتها في الوكالة، قبل أن ألج عتبات مرحلة جديدة في العمل الوطني واليساري الفلسطيني، وللحديث صلة.

المصدر : جريدة الدستور

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

omantoday

GMT 08:16 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

الحقد الاسود

GMT 10:20 2020 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

الشرطي الشاعر

GMT 01:50 2019 الأحد ,25 آب / أغسطس

عن «الحشد» و«الحزب»

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من منزل في «بربور» إلى مكتب في «البربير» من منزل في «بربور» إلى مكتب في «البربير»



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ عمان اليوم

GMT 18:46 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً
 عمان اليوم - فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 22:35 2013 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

النجم محمد باش يهدي المغربية سكينة بوخريص عقدًا ماسيًا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab