عريب الرنتاوي
وسط إجماع الإعلاميين والمراقبين، جرت انتخابات تونس التشريعية، في أجواء من الحرية والشفافية، ما حصل من تجاوزات، -بإجماع أحزاب تونس- لم يرق إلى مستوى الطعن والتشكيك بنزاهة العملية الانتخابية ... أبعد من ذلك، تحوّل “الاستثناء التونسي” إلى مادة للبحث والدراسة، وتجربة تستحق التأمل والاقتداء ... بأقل قدر من العنف، قطعت تونس أوسع الأشواط على طريق التحوّل الديمقراطي ... لا إرهاب ولا انقلاب، هكذا ردَّد بعض “التوانسة” بوصف ما اعتبروه مساراً انتقالياً توافقياً.
لقد يممنا وجوهنا شطر تركيا تارة، وتارة ثانية جنوب أفريقيا، وثالثة صوب اسبانيا واليونان ... الآن، يتعين علينا التفكير بتعلم دروس التجربة التونسية، وكيف أمكن لهذا البلد الصغير في مساحته وتعداد سكانه، أن يكون منطلق الربيع العربي ونموذجه الأبرز والأكثر نجاحاً... كيف أمكن له أن يكون أول الثورة، وأول الدولة، المدنية الديمقراطية التي تحلم بها الأجيال العربية الشابة؟
المفاجأة في انتخابات تونس التشريعية، لم تكن في إجرائها بسلاسة وهدوء، ووسط إقبال “معقول” على الاقتراع، وقد كنّا نأمل أن تكون نسبة المقترعين أعلى من ذلك، لكن قطاعات من شباب تونس المهمَّش، لم تلمس بعد، ثمار الثورة، وقررت محاسبة الطبقة السياسية التونسية، بالاستنكاف عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع.
المفاجأة الأهم، أن الانتخابات تمخضت عن تراجع حركة النهضة أمام حزب نداء تونس ... ونقول تراجعا، لا انكسار ولا هزيمة ولا صفعة ... لا شك أن النتيجة داهمت كثيرا من المراقبين، بل ربما تكون أخذت النهضة ذاتها على حين غرّة، فالحركة الإسلامية التونسية تنافس على الموقع الأول، و قد راهنت على توسيع الفجوة بينها وبين الحزب الذي سيحل ثانياً ... لكن الرأي العام التونسي، قال شيئاً مغايراً ... حجب عن “ترويكا” الحكم الانتقالي، وعاقب أحزابها الثلاثة على ما شهدته البلاد، من حالة مراوحة وإخفاق في معالجة ملفين اثنين: الاقتصاد والإرهاب.
نأمل أن تواصل تونس “تميزها” على شقيقاتها التي استحال ربيعها خريفا، بل شتاء حافلا بالأعاصير والطوفانات ... نأمل أن تتلقى مختلف القوى التونسية نتائج الانتخابات بصدر رحب، وان تبادر الأحزاب التي لم تأت رياح الصناديق بما تشتهي سفنها، إلى تهنئة الحزب الفائز، والتسليم بنتائج الانتخابات، والشروع في المشاورات لتشكيل حكومة ائتلافية جديدة، تقود المرحلة الثانية من انتقال تونس نحو الديمقراطية.
نقول ذلك، ونحن نتطلع إلى ردة فعل “النهضة” بشكل خاص ... حليفيه في الترويكا الحاكمة اندثرا أو هما في الطريق إلى ذلك ... وسيتوقف على الكيفية التي ستتعامل فيها حركة النهضة مع نتائج الانتخابات، الشيء الكثير ... وسنعرف في ضوء “ردة فعله”، ما إذا كان هذا الحزب “استثناءً” لمألوف الإسلاميين، الذين عوّدنا على وصف كل انتخابات يخسرونها، بغير الديمقراطية وغير الشفافة وغير النزيهة ، أم لا... فالأصل عند هؤلاء أن صناديق الاقتراع، يجب أن تصب في صالحهم، وفي صالحهم فقط، وخلاف ذلك، تزوير بتزوير، ومؤامرة تتلوها مؤامرة.
نتوقع أن يتعامل النهضة بروح رياضية مع نتائج الانتخابات، انسجاماً مع حالة “الاستثناء التونسي”، وتأسيساً على ما قاله قادة النهضة أنفسهم قبل الإعلان عن النتائج الأولوية، من أنها انتخابات نزيهة وشفافة ... لكننا لسنا متأكدين بعد، من الكيفية التي سيعالج فيها النهضة، أمر تراجعاته وحصاده المتواضع في الانتخابات الأخيرة.
إذا أكدت النتائج الرسمية، ما قالت به النتائج الأولية، فإن النهضة سيكون قد دفع أثماناً باهظة لتطورين أو ثلاثة تطورات مهمة، شهدتها تونس والمنطقة ... التطور الأول، فشل تجربة حكم الإخوان في مصر، وما قادت إليه وترتب عليها، من حملات مطاردة، ظالمة غالباً، ضد مختلف الجماعات الإخوانية في المنطقة، بل والجنوح إلى تحميل الإخوان كجماعة، وزر انتعاش السلفية الجهادية والتطرف الأصولي في المنطقة .... التطور الثاني، تفاقم التهديد الإرهابي في تونس، وعمليات الاغتيال التي جرت ضد قادة الجبهة الشعبية بالذات، وهو أمر، ألقى ويلقي بظلاله الكثيفة على “النهضة”، فالرأي العام عموماً، لا يميز كثيراً بين إخوان وسلفيين على اختلاف مدارسهم، وربما تكون النهضة قد أخذت بجريرة السلفية الجهادية ... التطور الثالث، ويتعلق بتفاقم الضائقة الاقتصادية في تونس، وعدم نجاح الترويكا الحاكمة، التي كانت النهضة في قلبها، في ترجمة أي من وعود الرخاء للشعب التونسي، بل على العكس من ذلك، لقد دفعت النهضة، ثمن ثلاث سنوات من الحكم، تفاقمت خلالها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فكان خيار التونسيين، البحث عن بدائل.
هناك من سيعمل من اليوم، على “نعي” التجربة التونسية، بل هناك من قد يتحدث عن “انقلاب أبيض” على الثورة، وستكون لدى هؤلاء ذرائع كثيرة، من بينها عودة بعض رموز النظام القديم عبر أحزاب جديدة، للبرلمان والحكومة ... والحقيقة، أن هذه المزاعم لا تصمد طويلاً أمام حقيقة أن الشعب التونسي، هو من اختار وقرر بملء حريته، وأن ليس كل من كان في موقع المسؤولية في العهد القديم، يستحق الإعدام السياسي، كما أن ليس كل من جاءت بهم الثورة، يستحقون التكريم والتبجيل.
تونس تشق طريقها للأمام، بالتوافق والانتقال السلمي، ومن دون عنف أو دماء، وقد قطعت شوطاً مهماً على هذا الطريق، وقد آن أوان التعلم من دروس “الاستثناء التونسي”.