عريب الرنتاوي
منذ أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على داعش، حرصت إدارة الرئيس باراك أوباما على “خفض سقف التوقعات”... لم تتحدث عن حرب خاطفة ونتائج مبهرة، بل شدد الرئيس الأمريكي والناطقون باسم إدارته، على أنها حرب طويلة وصعبة، قد تمتد لسنوات ثلاث ... الإدارة بعد حربي أفغانستان والعراق، باتت تدرك أن كسب حروبٍ من هذا النوع، ليس بالأمر اليسير، فهي من نوع “السهل الممتنع”.
في أفغانستان، مضى على حرب الكونية على طالبان والقاعدة، أكثر من ثلاثة عشر عاماً ... الحرب لم تضع أوزارها بعد، وطالبان لم تلق السلاح بعد، فيما الجيش الأمريكي يستعد للرحيل، وسط تقديرات بأن طالبان ستعيد بسط سيطرتها على مناطق أوسع من البلاد، ما إن يغادر آخر جندي أمريكي أرض “مقبرة الغزاة”، أو أن ينكفئوا في قواعد حصينة، وتنحصر مهامهم في التدريب والإشراف على بناء جيش أفغاني جديد.
إزاء وضع كهذا، لم تجد واشنطن من خيار سوى شق “قنوات خلفية” للتفاوض مع الحركة التي أدرجتها مبكراً على لوائح الإرهاب، تارة عبر “حوارات الدوحة” وأخرى عبر القناة السعودية ... تارة للبحث في مستقبل أفغانستان بعد الجلاء الأمريكي، وأخرى لتبادل الرهائن والسجناء بين الطرفين ... السيناريو الأفغاني لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان ونحن نفكر في مستقبل الحرب على داعش في كل من العراق وسوريا.
في العراق، لم تواجه واشنطن مشكلة في الإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين، حدث ذلك بسرعة خاطفة، بصرف النظر عن الأسباب، سواء قيل إنها “الفجوة الهائلة” في توازنات القوى أو “الخيانات” التي أعيد انتاج مثلها في “غزوة الموصل” ... لكن واشنطن اضطرت لدفع أثمان باهظة للاحتفاظ باحتلالها للعراق بضع سنوات إضافية، قدمت خلالها ألوف القتلى والجرحى ومئات مليارات الدولارات، ولولا “الصحوات العشائرية” لما أمكن لواشنطن أن تؤمن انسحاباً آمنا لقواتها الغازية... وما أن غادر آخر جندي أمريكي بلاد الرافدين، حتى كانت القاعدة تتحول إلى داعش، وتوسع نطاق إماراتها لتشمل “الهلال” الذي كان خصيباً ذات يوم، ولتجد نفسها مضطرة للعودة إلى العراق، بعد أحد عشر عاماً من غزوه، في حرب كونية جديدة.
ستُهزم داعش في نهاية المطاف، هذا أمر لا جدال فيه ولا مراء ... لكن الحرب عليها، لن تكون نزهة قصيرة، وقد تمتد لعشرات السنين، لا لسنوات ثلاث فقط ... وقد تأخذ أشكالاً متغيرة، وقد تتغير ساحاتها وميادينها... هذه المرة الحرب ستكون أصعب بكثير من سابقاتها ... داعش اليوم، ليست “قاعدة الزرقاوي” بالأمس، ولا طالبان قبل ثلاثة عشر عاماً ... داعش اليوم، تنظيم شديد البأس، حسن التسليح والتمويل، سقط على بيئة مذهبية متناحرة ويائسة، وسيتعين على التحالف الدولي أن يخوض قتالاً شرساً لاستئصالها.
الحرب هذه المرة مختلفة عن سابقاتها ... واشنطن التي “لسعتها” نيران الخسائر والهزائم في حربيها السابقتين، لن ترسل جنوداً على الأرض ... لا أحد سيرسل جنوداً إلى رمال داعش المتحركة ... ومَنْ مِنَ العراقيين يريد مثل هذه الجيوش .... “تحالف جدة”، أضعف من أن يقاتل على الأرض، وجيوشه ذات المكون المذهبي السني، ستكون سببا في استنفار أشد مشاعر العداء من قبل نصف العراقيين على الأقل ... إيران لن ترسل جيوشاً، قد ترسل خبراء ووحدات خاصة، تعمل تحت راية الجيش العراقي أو المليشيات الشيعية ... لكن كلما تورطت إيران في الحرب على داعش، وفي بيئتها السنية، كلما تفتحت الأبواب أمام مزيد من الرياح المذهبية العاتية ... أما تركيا، فما زال الخبراء حائرين في معرفة موقعها من هذه الحرب، وهل هي إلى جانب التحالف الدولي، أم أنها الداعم الرئيس لداعش، وإن من وراء ستار، ولعل معارك الأيام الأخيرة بين الأكراد وداعش، وما صدر عن وحدات الحماية الكردية الشعبية من اتهامات لأنقرة بدعم هجوم داعش على مناطقها، يعطي الدليل الإضافي على وقوف أنقرة في “المنطقة الرمادية” ما بين داعش والتحالف.
ولسنا نستبعد، ونحن في حمأة الانتظار للهجوم الواسع، الذي طال انتظاره، أن تكون “داعش” في واد آخر، تبحث عن هدف استراتيجي آخر تنقض عليه ... هنا يجب أن تظل الأعين مفتوحة على شمال لبنان، الذي قد يسقط كثمرة ناضجة في أفواه الدواعش ومن والأهم، وبأسرع مما يظن كثيرون.
على أية حال، قد تدحر داعش من كثير من مدن العراق وسوريا وبلداتهما ... لكن السؤال الذي سيقفز إلى الأذهان للمرة الثالثة في غضون عقد من الزمان هو: ماذا بعد اندحار “داعش”، أو تراجعها، القريب أو البعيد؟ ... التجربة تقول -بما لا يدع مجالاً للشك- إنه من دون معالجة سياسية لأزمات هذه البلاد، ستظل قادرة على “تفريخ” المزيد من “الدواعش”، بأشكال جديدة ومسميات جديدة، وبأسرع مما يُظن ويُعتقد ... والمعالجة السياسية التي نتحدث عنها، ليست من النوع الذي اختبره العراق زمن “بريمر” أبداً، فجذور الأزمة الطاحنة التي تعتصر العراق اليوم، تضرب عميقاً في نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية والقومية الذي اعتمد في عراق ما بعد صدام حسين، وستظل هذه الصيغة والنظام، سببا في إنتاج المزيد من الأزمات والحروب الدورية المتعاقبة.
لا ترميم ينفع مع الصيغة العراقية الراهنة، ولا التقسيم يمكن أن ينهي أزمة البلاد ... فمن قال مثلاً إن التقسيم سينهي حروب الأقاليم المذهبية؟ ... من قال إن التقسيم لن يجعل الإقليم الشيعي في حرب دائمة مع الإقليم السني، حيث القوى المذهبية تهيمن هنا وهناك؟ ... من قال إن كل إقليم من الأقاليم المقترحة، لن يشهد حرباً داخلية ضروس، بين مكوناته السياسية، وانظروا ماذا حصل في جنوب السودان، بعد انتهاء “الاحتفال الدولي” باستقلاله؟
مشكلة الولايات المتحدة في حربها القادمة على “داعش”، إنما تكمن في غياب أي تصور استراتيجي لمستقبل المنطقة، فضلا عن اعتمادها على حلفاء هم جزء من المشكلة ومسببها الرئيس، وليسوا أبداً جزءا من حلها ... فلا أحد من هؤلاء الحلفاء الكبار يجد مصلحته في بناء عراق مدني – ديمقراطي، بل بالنسبة لكثيرين منهم، فإن عراقاً ديمقراطياً، سيشكل تهديداً لهم أكبر من تهديد “داعش” ... ولا أحد من هؤلاء الحلفاء، يفكر أو يتصرف خارج الحدود المذهبية، والأهم أن بعضهم لا يختلف عن “داعش” في مشاربه الفكرية والإيديولوجية... وبوجود حلفاء من هذا النوع، ما حاجة واشنطن للأعداء.