عريب الرنتاوي
وصفت الإدارة الأمريكية موافقة دمشق على قيام وفد أممي بالتحقيق في جريمة الغوطة الكيماوية، بانها "فاقدة للصدقية"، والسبب كما تقول إنها جاءت متأخر خمسة أيام عن موعد حدوث الجريمة، وهي فترة كافية للتلاعب بالأدلة وتبديدها ... الشيء ذاته صدر عن الحكومة البريطانية التي أعربت على لسان وزير خارجيتها عن الخشية من نجاح النظام في "إزالة آثار جريمته"، ولم تخرج ردود أفعال معظم العواصم الغربية عن هذه "النغمة".
إذا كان الحال كذلك، وأن خمسة أيام فقط تكفي لتبديد الأدلة وإزالة آثار الجريمة، فلماذا أرهقت الأمم المتحدة، وبضغط من مجلس الأمن، والدول الغربية، لماذا أرهقت ذاتها ومفاوضيها، في السعي لانتزاع موافقة النظام على دخول فريق التفتيش الأممي للتحقيق في جرائم كيماوية، مضى على اقترافها ما يقرب من العام أو يزيد عنه، وكيف يمكن الافتراض أن الأدلة ما زالت موجودة في خان العسل، برغم تعاقب عمليات الكر والفر على البلدة السورية الشمالية، فيما الأدلة سرعان ما تذروها الريح في غوطة دمشق؟
في خان العسل، لم يستجب "رعاة القيم الإنسانية العليا" لطلب الحكومة السورية التحقيق في جريمة استخدام الكيماوي، ولجعل مهمة النظام عسيرة، تم بطلب من فرنسا وبريطانيا، توسيع مهمة التحقيق لتصبح تفتيشاً على مخزونات النظام من هذا السلاح، وفي تحدٍ مقصود هدفه استدراج رفض النظام و"تعنته" ... وهذا ما كان على أية حال، لتمتد المفاوضات أشهراً عديدة، انتهت بقبوله التفتيش في ثلاثة مواقع بدل موقع واحد ...كان المقصود بالضبط، أن يركب النظام رأسه ويواصل رفضه استقبال فرق تحقيق دولية في المناطق المنكوبة، فهذه وحدها تشكل ذريعة كافية لاتهام النظام والمضي في بناء "سيناريو التدخل العسكري"، لكن النظام الذي كان هو من طالب بالتحقيق في جريمة خان العسل تحديداً، فاجأ خصومه بتوقيع اتفاق مع الأمم المتحدة، بالتحقق من ثلاثة مواقع، وبقية القصة معروفة.
وأمس الأول، الأحد، كانت التوقعات ترجح رفض النظام أيضاً إرسال المراقبين الدوليين إلى الغوطة الشرقية، لكن النظام فاجأ خصومه مرة ثانية، وربما بضغط من حلفائه، وقبل بتوسيع نطاق مهمة الوفد الأممي، مسقطاً بذلك ذريعة "تعنته"، وما قيل ويقال عن "أن النظام لديه ما يخفيه ويخيفه"، أو أنه كالمريب، يكاد يقول خذوني ... وعندما لم يحقق هذا "الكمين" مراميه، كان لا بد من التشكيك بجدوى التحقيق وجديته، والطعن بصدقية القرار السوري، ودائماً بهدف الاستمرار في "بناء سيناريو التدخل العسكري".
نحن إذن، أمام إعادة انتاج رديئة لسيناريو "التفتيش الدولي العراق"، حيث بدأ الأمر بطلب الكشف عن مخزونات السلاح ومراكز انتاجها، لينتهي بالطلب إلى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين السماح بتفتيش غرف نومه، أملاً في الحصول على "رفض صريح" لمهمة المفتشين الدوليين، ولكن حتى بعد أن قبل الرئيس الراحل بتمكين هؤلاء من "التنقيب" تحت سريره، لم يكن من الدول ذاتها، وبزعامة الولايات المتحدة وبريطانيا، إلا أن شرعت في تنفيذها حربها "المُعدّة مسبقاً" ضد العراق، بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل وتعقباً لصلاته مع تنظيم القاعدة.
ولم تجد الدول التي تزعم استنادها لمنظومة قيمية عليا، حاجة لتقديم الاعتذار لشعوبها، قبل أن تقدمه لشعوبنا، بعد أن ثبت زيف الادعاءات والاتهامات، وكذب المخابرات، بل وتورطها في مؤامرة "فبركة" و"تزييف" الأدلة والبراهين التي تسوغ الحرب، فكنا وكان العالم أمام جريمة مركبة، ما زال العراق ومنطقتنا، يدفع ثمنها حتى اليوم.
والحقيقة أن أحداً ما عاد مهتماً بما سيخرج به فريق المفتشين الذي بدأ عمله أمس في الغوطة، لقد فقد هذا الفريق أهميته منذ أن حصل على الموافقة الرسمية للشروع في أداء مهامه، بعد ذلك كل ما سيخرج به الفريق ليس مهماً، اللهم إلا إذا كان يخدم هدف بناء "سيناريو التدخل العسكري"، ما عدا ذلك، يمكن أن يؤتى بألف ذريعة وذريعة، للبرهنة على أن النظام هو من قارف الجريمة، وأن كل ما خلا ذلك، باطل.
سوريا تقترب من لحظة العدوان الجديد، وهو عدوان لا أخلاقي بكل القيم والمقاييس، حتى وإن تدجج بكل الشعارات البرّاقة المترعة بالقيم والمشاعر النبيلة ... هو عدوان سيضيف إلى هذه المنطقة الهائجة والمائجة، المزيد من عوامل الاهتياج والتصعيد، وستسيل دماء كثيرة وغزيرة، قبل أن تتمكن لسوريا والمنطقة من استيعاب تداعيات حرب أمريكية ثالثة في الشرق الأوسط في غضون عقد واحد.
عشر سنوات مرت على الغزو الأمريكي للعراق، ولم يستعد هذا البلد عافيته ... وستحتاج سوريا ربما لأكثر من عشر سنوات، قبل أن تلملم جراحها فيما إذا تحركت الطائرات والجيوش المتربصة ... وليس مهماً بعد ذلك، أن نكتشف بعد شهر أو سنة، بأن تقارير المخابرات الغربية عن سوريا، كانت كاذبة، وتنقصها الصدقية، وأنها كانت مغرضة ومفبركة، فلن نجد من قادة هذه الدول من سيجد نفسه مضطراً لتقديم اعتذار ... لقد فعلوها من قبل، فلماذا لا يفعلونها الآن من جديد؟!
نقلا عن موقع القدس للدراسات السياسية