عريب الرنتاوي
تكاد المبادرة المصرية للتهدئة على جبهة الحرب الإسرائيلية الثالثة على قطاع غزة، أن تكون “نسخة كربونية” عن اتفاق التهدئة الذي أبرمته حماس في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2012، بوساطة نشطة من جهاز المخابرات المصرية، وبرعاية الرئيس الإخواني الدكتور محمد مرسي:
مبادرة اليوم واتفاق الأمس، ينصان في البند الإجرائي الأول (بعد الديباجة) على أن تقوم إسرائيل بوقف جميع الأعمال العدائية على قطاع غزة براً وبحراً وجواً، المبادرة تضيف إلى الاتفاق (مع التأكيد على عدم تنفيذ أي عمليات اجتياح بري لقطاع غزة أو استهداف المدنيين).
البند الثاني في المبادرة والاتفاق، ينص على قيام كافة الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، بإيقاف جميع الأعمال العدائية من قطاع غزة تجاه إسرائيل جواً وبحراً وبراً (المبادرة تضيف وتحت الأرض)، مع التأكيد على إيقاف الصواريخ بمختلف أنواعها والهجمات على الحدود واستهداف المدنيين.
البند الثالث في المبادرة والاتفاق ينص على فتح المعابر وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع عبر المعابر الحدودية في ضوء استقرار الأوضاع الأمنية على الأرض (الاتفاق نص على إجراءات تنفيذ ذلك بعد 24 ساعة)
باقي القضايا الأخرى بما في ذلك موضوع الأمن سيتم بحثها مع الطرفين، الاتفاق نص (إذا ما تم طلب ذلك).
أما آلية (أسلوب) التنفيذ، فقد نص الاتفاق والمبادرة على ما يلي: (1) تحديد ساعة صفر، في الاتفاق تم الأمر باتفاق الطرفين، في المبادرة جاء تحديد ساعة الصفر من قبل مصر... (2) يلتزم الطرفان بعدم القيام بأي أعمال من شأنها التأثير بالسلب على تنفيذ التفاهمات... (3) تحصل مصر على ضمانات من الطرفين بالالتزام بما يتم الاتفاق عليه، ومتابعة تنفيذها ومراجعة أي من الطرفين حال القيام بأي أعمال تعرقل استقرارها.
الاتفاق جاء ثمرة لمفاوضات غير مباشرة، أجرتها المخابرات المصرية مع الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي كل على حدة، أما المبادرة فاقترحت إجراء مثل هذه المفاوضات، بعد 48 ساعة من وقف إطلاق النار، وبالطريقة ذاتها.
نحن إذاً، أمام نسخة تكاد تكون غير مزيدة وغير منقحة من اتفاق 2012، فلماذا قبلت حماس بالاتفاق الذي عقد تحت رعاية نظام الإخوان بالأمس، وترفض المبادرة التي قدمها نظام السيسي اليوم، بل ويصفه المتحدث باسمها أسامة حمدان بـ “النكتة” في حديث مع قناة سي إن إن، وقال فيها ما لم يقله مالك في الخمر ... ما الذي تغير بين الأمس واليوم، حتى أصبح المقبول مرفوضاً، ولترتفع سقوف المطالب والتوقعات؟
حماس تقول إنها أحدثت تغييراً جوهرياً في موازين القوى مع الاحتلال، وأن من حقها أن تضخ مزيداً من المطالب والشروط في أي اتفاق جديد بناء على ذلك، وهي تولي أهمية خاصة لما أسمته “مفاجآت” عملية “العصف المأكول”، وهذا ما تشاطرها به حركة الجهاد الإسلامي، وإن كانت أعطت اسماً مختلفاً للعملية هو “البنيان المرصوص”، وكذا الحال بالنسبة للفصائل الأقل شأناً.
بعض حلفاء حماس، تأخذه الحماسة إلى أبعد من ذلك، فيقترح أن التحرك المصري إنما جاء “لإنقاذ إسرائيل من مأزقها وورطتها” وأن المبادرة المصرية، تكشف عمق التواطؤ المصري والعربي مع تل أبيب ضد “محور المقاومة”، لكأن دماء الإسرائيليين هي التي كانت تنزف بغزارة، وليس دماء الفلسطينيين ... مثل هذا الكلام لم نسمعه قبل سنتين إثر التوقيع على اتفاق مماثل، فمصر في ذلك الوقت، كانت “كنانة الله على أرضه” و”قلب العروبة النابض”، أما اليوم، فهي تدار بانقلاب “صهيو– أمريكي”؟!
كثيرون لا يأخذون بهذا التفسير، ويقترحون أن حماس التي تكاد تختنق بقطاع غزة، من دون أن تسعفها حكومة الوفاق الوطني ولا اتفاقات المصالحة، كانت تراهن على أن تأتيها المواجهة الأخيرة بمفاتيح الفرج والانفراج، وأن تمهد لها طريق الخروج من أطواق العزلة وجدران الضائقة الاقتصادية والمالية، وأن تستأنف علاقتها مع القاهرة ونظامها الجديد، الذي ضيّق الخنّاق من حول عنق حماس في القطاع الضيّق والمحاصر أصلاً، بيد أن المبادرة لا تحمل أياً من هذه الوعود أو الرهانات، بل تُبقي حماس في أضيق دوائر الاستهداف والحصار، لكأن مائتي شهيد، وسبعة أضعافهم من الجرحى، لم يسقطوا في هذه المواجهة.
ثم، ما الذي ستقوله حماس لكوادرها وقادتها وجمهورها في الضفة الغربية، بعد أن أقدمت إسرائيل على اعتقال 600 منهم، من بينهم أعضاء مجلس تشريعي منتخبين، منذ حادثة اختفاء، ولاحقاً قتل، ثلاثة مستوطنين في منطقة الخليل؟ ... وكيف يمكن أن تلوذ الحركة وكتائبها بالتهدئة، فيما هؤلاء يقبعون خلف الجدران والقضبان ... ما الذي حققته عملية اختطاف المستوطنين ومن بعدها “العصف المأكول”، فيما الآثار الإيجابية لعملية “الوفاء للأحرار” قد تبددت وعاد عدد كبير من الأسرى المحررين في صفقة شاليط إلى السجون والمعتقلات؟!
حماس، ومعها عدد من الفصائل، وضعت لنفسها سقفاً من المطالب والشروط للتهدئة، أولها أن لا عودة إلى اتفاق 2012، ومن بينها إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين في الحملات الأخيرة، رفع الحصار وفتح المعابر مع مصر وإسرائيل، من دون إغفال القضايا ذات الصلة بإعادة الإعمار ... وحدها صفقة مستوفية لهذه الشروط أو كثيرٍ منها، كان يمكن أن تخرج حماس من عنق الزجاجة الضيق الذي يعتصرها ... بيد أن أطرافاً عربية وفلسطينية، ومن بينها القاهرة ورام الله، لم تكن لتتمنى خروج حماس مزهوّة بأكاليل الغار والنصر، وهي (الأطراف) وإن كان يحرجها ما يتعرض لها أهل غزة من قتل وتذبيح وتدمير، إلا أنها كانت ولا تزال حريصة، على ألا تصب القمح في طاحونة حماس، ولقد جاء اجتماع القاهرة لوزراء الخارجية العرب، ليضع ختم الجامعة العربية على رغبات وأماني كل من النظام المصري والسلطة الفلسطينية.
إن قبلت حماس بهذا الاتفاق، تكون قد تكبدت هزيمة مضاعفة، فلا معنى لأية مفاوضات ستجري بعد 48 ساعة من وقف النار ... وإن هي رفضته، وبالأخص بعد قبوله إقليميا ودولياً، ستكون قد منحت نتنياهو غطاء وشرعية لاستئناف حرب التطويق ولإبادة ضدها وضد الشعب الفلسطيني، وهي وحدها من سيتحمل المسؤولية بعد ذلك عن الدم والخراب في قطاع غزة ... حماس بعد المبادرة المصرية، باتت في وضع أصعب مما كانت عليه قبلها، وربما لهذا السبب بالذات، يعتقد البعض بأن المبادرة المصرية مضموناً وإخراجاً، صيغت بطريقة لا تسمح لحماس إلا برفضها، وبهدف تحميلها وزر استئناف “العمليات العدائية” الإسرائيلية القادمة على القطاع ....
حماس تقف الآن وجهاً لوجه أمام مأزق خيارات، فكيف ستتصرف الحركة، وفي أي اتجاه ستأتي مواقفها النهائية من المبادرة المصرية؟ ... سؤال برسم الساعات وليس الأيام القليلة القادمة.