عريب الرنتاوي
يخطئ من يظن، أن إجهاز إسرائيل على خيار "الدولة الفلسطينية المستقلة والقابلة للحياة"، سوف يدفع بها للقبول بخيار "الدولة ثنائية القومية"، أو أنه سيكون بمقدورها فرض نظام "أبارتهايد" على الشعب الفلسطيني، بالضد من إرادته وإرادة المجتمع الدولي، وإلى ما شاء الله ... إسرائيل، تلعب على عامل الوقت، أملاً بتركيع الفلسطينيين وكسر إرادتهم، ورهاناً على خروج نفرٍ من بينهم، يقبل بابتلاع فضلات مشروعها التوسعي / الاستيطاني .... ولأنها تدرك إن ذلك أمراً كهذا، عصيٌ على التحقيق، فإنها تفكر من دون شك، بإعادة انتاج تجربة الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من قطاع غزة.
ثمة من بين "النخب" السياسية الفلسطينية، من لديه الاستعداد للقبول بدولة البقايا و"فائض السكان"، ولقد سمعنا أصواتاً تتدثر بلبوس "الواقعية السياسية"، تجنح للأخذ بهذا الخيار، بعض هؤلاء يخوض اليوم معارك شرسة ضد الرئيس محمود عباس ومنظمة التحرير وفتح والسلطة الفلسطينية، مستقوياً بمواقف غير مفهوم من بعض الدول الشقيقة ... لكن هؤلاء مهماً علا ضجيجهم، ليسوا من ذوي القامات الطويلة، التي يمكنها الاضطلاع بدور على هذا القدر من القذارة ... الأرجح، إن لم نقل المؤكد، أن طريق هؤلاء مسدود ... مسدود ... مسدود.
دولة الحدود المؤقتة التي تريد إسرائيل فرضها على الشعب الفلسطيني، ومن جانب واحد، ستشكل تحدٍ كبير لمختلف القوى الوطنية الفلسطينية ... وليس مستبعداً إزاء وضع يجد فيه الفلسطينيون أمام انسحاب إسرائيلي من مناطق "أ" و "ب “، وربما بعض مناطق "ج"، أن يطلع علينا من سيقول لنا: وماذا نفعل بهذه المناطق "المحررة"، هل نستجدي إسرائيل لإبقاء احتلالها وإدامته، أم نأخذ زمام المبادرة، وندير مناطقنا بأنفسنا، ونواصل "النضال" من أجل "تحرير" بقية الأراضي المحتلة.
أمثال هؤلاء، يعلمون علم اليقين، أن دولة الحدود المؤقتة، ستؤول بعد عمر طويل، إلى دولة الحدود الدائمة ... كل "مؤقت" في العرف الإسرائيلي، سيتحول إلى "دائم" ما لم يثبت العكس ... هذه خلاصة التجربة الفلسطينية قبل أوسلو وبعده، ومع ذلك، ربما يفضل البعض منّا، العمل بقاعدة ما يدرك كله، لا يترك جُلّه، وقد يجد هؤلاء بعض الدعم، من شرائح وفئات، محبطة ويائسة، أو مستفيدة من بقاء الوضع على ما هو عليه، أو مترددة وخائفة من البدائل والخيارات الأخرى المجهولة.
لنا في تجربة الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة، المثل والعبرة ... فريق من الفلسطينيين، كبير نسبياً، حماس على وجه الخصوص، يصر على وصف ما قام به شارون من جانب واحد، على أنه "تحرير" لقطاع غزة ... البعض ما زال يعتقد أن القطاع محرر، مع أنه لا يستطيع مغادرة منزله إلى معبر رفح، ولا يستطيع أن يشعل الضوء في منزله، من دون موافقة إسرائيلية ... البعض الآخر، كان أكثر ذكاء في التعبير عن وجهة النظر ذاتها، فهو يعترف بأن إسرائيل أعادت نشر قواتها من قطاع غزة، بيد أنها لم تعد قادرة بفعل "المقاومة"، على إعادة احتلال القطاع، وكلا المقاربتين، ناقصتين، ولا تصمدان أمام الوقائع العنيدة، وتتجاوزان على حقيقة أن إسرائيل ضاقت ذرعاً بالديموغرافيا الفلسطينية الكثيفة جداً في قطاع غزة، المنتشرة على شريط ضيق للغاية من الأرض الفلسطينية التاريخية.
وربما يطلع علينا من سيعيد إنتاج خطاب "التحرير" الملتبس هذا ... ربما يطلع علينا من يفكر بإعطاء الأولوية "للإنسان" على حساب "الأرض" ... ربما نواجه بمن لديه من اليقينيات ما يكفيه مؤونة التفكير ملياً بمرامي وأهداف أية خطوة أحادية من هذا النوع، تبدو مرجحة اليوم، أكثر من أي وقت مضى.
ذات تصريح غاضب للرئيس عباس، تحدث فيه عن حل السلطة أو تسليم مفاتيحها للاحتلال، خرج السيد موسى أبو مرزوق بتصريح غريب من نوعه، طالب فيه "أبو مازن" بتسليم السلطة لحماس بدل إسرائيل، وهي ستتدبر أمرها ... ليست زلّة لسان أبداً، بل هي امتداد لنظرية "القطاع المحرر"، وتأسيس على نظرية أولوية الإنسان على الأرض، وتعبير عن ضعف "المكون الوطني" في الخطاب الإسلامي لصالح المكون الديني الاعتقادي.
الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي هو صراع على الأرض والإنسان معاً، أية اختلال في المعادلة، تدفع بصاحبها إلى مقارفة ما لا تحمد عقباه من نتائج وعواقب ... إسرائيل ماضية في خياراتها أحادية الجانب، وهي معنية بوجود من يوفر لها بضاعة الأمن والأمان، بصرف النظر عن مرجعيته وهويته الفكرية أو الدينية، ولأنها خطوات أحاديه، فهي لا تشترط بمن يتعامل مع مخرجاتها أن يعترف بإسرائيل أو يقبل بالاتفاقات المبرمة معها، فالأحادية في جوهرها، هي نسف لمنطق الاتفاقيات الثنائية والدولية ... ومثلما تدير إسرائيل ظهرها لسؤال من يدير قطاع غزة، إن كان يوفر "البضاعة" ويفي بالالتزامات المطلوبة، فالأرجح أنها لن تكترث بمن يدير "فضلات" مشروعها الاستعماري – العنصري، شريطة تقديم "البضاعة"، وبصرف النظر عن طريقة تغليفها أو تعبئتها.
ذات يوم، زمن نظام مرسي في مصر، ونفوذ قطر المتزايد في المنطقة، راجت فكرة من هذا النوع، أقله في الأوساط السياسية والدبلوماسية المغلقة نسبياً، وجرى حديث عن إعادة انتاج وتعميم نموذج غزة إلى بقايا الضفة الغربية ... ما حصل في مصر بعد 30 يونيو، وانكفاء الدور القطري، وحالة الارتياح النسبي التي تعيشها السلطة والمنظمة وفتح والرئيس، عرقلت "الفكرة/ المشروع"، بيد أنها لم تقطع الطريق عليه نهائياً، ولن يكون مفاجئاً أن يعود للإطلالة برأسه القبيح من جديد، إن هبت رياح التطورات والانتخابات الفلسطينية القادمة، بما تشتهيه هذه السفن وأصحابها.