عريب الرنتاوي
فجأة، ومن دون مقدمات، وضعت كافة قضايا الخلاف بين فتح وحماس على موائد الإعلام والفضائيات، وانتقلت إلى الاجتماعات العربية والإقليمية رفيعة المستوى، وعاد الطرفان إلى نبش الذاكرة، لاستحضار كل ما يجعل استمرار المصالحة والوفاق الوطني، أمراً متعذراً.
اللافت في هذه الجولة من جولات الانقسام، أن الرئيس محمود عباس، هو الأكثر نشاطاً وهجوميةً في توجيه الانتقادات وكيل الاتهامات والتلويح بالإجراءات، حتى أن مساعديه وعددا من كبار قادة فتح والسلطة، بدوا أكثر هدوءً في تناولهم لقضايا السجال والتراشق الإعلامي ... حماس بدورها بدت أكثر ميلاً لتبني خطاب “دفاعي”، يغلب عليه الميل للتهدئة واحتواء الموقف، فهي بحاجة للسلطة والمصالحة إن هي أرادت رفع الحصار وإعادة الإعمار... أما بقية الفصائل، فلم تفعل أكثر من أن تفغر فاهاً دهشةً و”قلة حيلة”، فما السر وراء ذلك؟ ... ولماذا جاءت مواقف الأطراف على هذه الصورة؟
في تفسير الهجمة الرئاسية على حماس، تقفز على السطح ثلاثة احتمالات ... الأول، أن الرئيس نفذ صبره فعلاً من محاولات حماس توظيف السلطة وحكومة الوفاق الوطني كـ “طربوش” كما قال شخصياً، أو كـ “صراف آلي” كما يهمس مساعدوه، فهي تخلت عن الحكومة ولم تتخل عن حكم غزة، وهي تدير “حكومة ظل” في القطاع، ستجعل من المستحيل على أية حكومة وفاق أن تمارس دورها، فضلاً عمّا يتردد عن إصرار حماس على وضع “عسكري” من طرفها خلف كل عنصر من عناصر الرئاسي على الحدود والمعابر، وتشكيل هيئة وطنية للإشراف على إعادة الإعمار، تجعل من دور السلطة والحكومة، ثانوياً للغاية.
الثاني؛ أن الرئيس عباس، يخضع لضغوط كثيرة من محور عربي وازن ومعروف، كشف عن أسماء أربع من دوله الرئيسة في لقاء الدوحة مع خالد مشعل بحضور أمير قطر، هدف هذه الضغوط، فك ارتباطه بحماس وتفكيك حكومة الوفاق، إذ لا يعقل أن يكون “الإخوان المسلمون” مطاردون في كل هذه الدول، فيما فرعها الفلسطيني، يحظى بالدعم والإسناد، وينفق عليه جزئياً من أموال بعض هذه الدول المانحة للسلطة ... قائمة الضغوط لا تقتصر على هذه الدول، فثمة ضغط إسرائيل – أمريكي وأوروبي (جزئياً) يدفع بهذا الاتجاه.
الثالث؛ أن الرئيس، وبالأخص في اتصالاته “الغامضة” مع نتنياهو، ربما يكون تلقى وعوداً بجلاء الاحتلال عن معظم أراضي الضفة، هو قال شخصياً أنه تلقى تأكيدات من رئيس الحكومة الإسرائيلية بالجلاء عن الضفة، قبل أن يعود ناطقا باسم “بيبي” لنفي المسألة برمتها ... والرئيس يبدو مقبلاً على طرح خطة سياسية جديدة – قديمة، تستوجب من ضمن ما تستوجب، عودة للمفاوضات، وبحثاً يائساً عمّا تبقى من حقوق الفلسطينيين، يمكن انتزاعها من بين الأنياب الفولاذية الحادة لجرافات الاستيطان ودبابات العدوان.
جميع هذه الاحتمالات والسيناريوهات، تقتضي إبعاد حماس عن موقع صنع القرار الفلسطيني، أو تهميش دورها فيه، والحقيقة أن أحداً لا يعرف أين يصنع هذا القرار وكيف ... وهي جميعها تملي شن هجوم على حماس، واستحضار كل ما يمكن استحضاره لـ “شيطنتها” وفك الشراكة معها ... والحقيقة أن من يريد أن ينسحب من الشراكة مع حماس، سيجد دائماً وفي كل الأحوال، ما يكفي من الأسباب لتبرير قراره، تارة بالقول “تغليب العلاقة مع الجماعة على حساب المصلحة الوطنية” وأخرى بالارتباط بمحور إقليمي وخدمة أهدافه، وثالثة بالحديث عن الاستئثار والتفرد و”التمكين” والخطاب المزدوج، إلى غير ما هنالك.
ثمة من يعتقد أن الرئيس رفع سقف الهجوم وألقى بقفاز التحدي، بهدف إنزال حماس عن الشجرة، والهبوط بسقف مطالبها وتوقعاتها، وهي التي أخذتها النشوة بـ “انتصار غزة”، وثمة دلائل على أن سلطة رام الله، بدأت قولاً وفعلاً، في “تقزيم” هذه النصر، بل وتصويره ككارثة حلّت بالشعب الفلسطيني، وتحميل حماس أوزارها ... حتى أن بعض الناطقين المحسوبين على الرئيس، كادوا لفرط حماسهم، أن يبرئوا إسرائيل من المسؤولية عن العدوان، وأن يضعوها في موقع “الضحية” والمدافع عن النفس.
أسوأ ما في هذه الحملة، ما ورد على لسان الرئيس من سخرية مريرة من صواريخ المقاومة ... مع إن إسرائيل لم تنظر للأمر على هذا النحو، وهو كاد ينفي وقوع إصابات في الجانب الإسرائيلي، وقلل من خسائر حماس عندما قال إنها لم تخسر سوى 50 عنصراً، بينما خسرت حركة فتح أكثر من 830 شهيداً ... لا أدري من أين جاء الرئيس بأرقامه، وإذا كانت هناك أية جهة أمنية فلسطينية قد زودته بها، فأحسب أن عليه محاسبتها أشد الحساب، وإقالتها من وظيفتها، فهذا نقص فادح في المهنية إن لم يكن خداعاً وتضليلاً للرئيس.
على أية حال، ومن موقع إدراكه لحاجة حماس للسلطة لرفع الحصار وإعادة الإعمار، يريد الرئيس لحماس، أن تأتيه للمصالحة بعد الحرب الثالثة على غزة، كما جاءته مهرولة قبلها، عندما أجرى تعديلاً وزارياً على حكومته، وقال إنها “حكومة وفاق وطني” واسماها حكومة الرئيس تشكيلاً ورئيساً وبرنامجاً، فالرئاسة والسلطة، هي “السلطة الواحدة” التي يريد للجميع أن يجنح لها، وسلاحها شرطتها وأمنها الوطني، هو “السلاح الواحد” الذي يتعين الانضباط تحت لوائه، أما برنامجه، فهو البرنامج الواحد الذي يتعين على الجميع الالتزام به.
والحقيقة أننا كنا سنسعد بوحدانية السلطة والسلاح والبرنامج، لو أن السلطة مكتملة الشرعية وممثلة للغالبية الساحقة من الفلسطينيين في الضفة والقطاع والشتات، ولو أن لهذا البرنامج فرصة في استعادة الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين، ولو أن هذا السلاح، كفيل بمنع إسرائيل عن استعراض قواتها أمام المقاطعة في رام الله، دع عنك منع اجتياح غزة، واعتقال من انضوى يوماً تحت راية المقاومة أو وردت بخاطره.
كنا سنسعد بكل هذا، لو أن طريق المفاوضات ما زال مفتوحاً، أما حين يرد نتنياهو على الرئيس بضم أربعة آلاف دونم من أراضي رام الله والخليل، ويشرع في تسمين مستوطنات القدس ورام الله (وهو الذي تعهد لعباس بالجلاء حتى حدود 67) ... أما وأن آخر انتخابات وآخر الاستطلاعات أظهرت أن حماس جاوزت شعبيتها الستين بالمائة ... أما وأن جميع “الشرعيات الفلسطينية” قد تآكلت منذ سنوات طوال، فإننا لا نرى منطقاً في كل هذا السجال، وندعو للعودة للاتفاقيات المبرمة، وتفعيل الإطار القيادي لمنظمة التحرير، باعتبار هيئة صنع القرار ومصدر السلطة (المؤقت) وإطار المصالحة والوحدة، والنافذة لتجديد الشرعيات، كل الشرعيات، وللبحث صلة.