الحكومة اللبنانية الجديدة إذا تشكلت بأى اسم غير توافقى فهى حكومة مستقيلة قبل أن يتم تسميتها ويتم إعطاؤها صك الشرعية البرلمانية.
لبنان تركيبة سياسية لا يصلح فيها منتصر كامل ومهزوم كامل، هذا من ناحية المبدأ.
ولبنان الآن، وعند كتابة هذه السطور، أصبح حكمه أكثر تعقيداً، وإحداث التوازن السياسى فيه أكثر صعوبة، وإرضاء الجماهير الغاضبة أصبح شبه مستحيل.
توافق حزب الله، حركة أمل، التيار العونى مهما كان لديه من نفوذ فى القصر الرئاسى، وفى البرلمان، وفى مخازن السلاح، فإنه وحده غير قادر -حكماً- أن يحقق شروط التوافق المحلى، ويحظى بالمظلة الخليجية المالية، ولا بالرضاء الدولى، خاصة من باريس وواشنطن.
هذه معادلات مثل الكيمياء لها تركيبة معروفة لا يمكن المساس بعناصرها أو العبث بها لإرضاء مصالح شخصية ضيقة.
أربعة متغيرات زادت المشهد اللبنانى تعقيداً، وجعلت من إمكانية إيجاد أى حل مرضٍ لكل الأطراف أمراً صعباً.
هذه العناصر هى:
1- فساد حكومى وعدم كفاءة نتج عنه بدء انهيار فى النظام المالى.
2- تجميد المصارف لأرصدة وودائع العملاء وانهيار تاريخى لليرة اللبنانية مقابل الدولار من 1550 ليرة للدولار حتى وصل إلى ما يلامس التسعة آلاف للدولار الواحد.
3- ثورة فى الشارع بدأت من 17 أكتوبر 2019، لم تهدأ حتى الآن، عابرة للطوائف، ترفض كل النخب السياسية التقليدية التى تتوارث الحكم منذ نصف قرن.
4- أضيفت لذلك كله آثار اجتماعية واقتصادية مدمرة بسبب جائحة الكورونا التى أثرت على لبنان المنهار اقتصادياً، المأزوم سياسياً، ذى نظام الرعاية الصحية المتداعى بسبب ضعف الإمكانيات.
ثم جاء انفجار 4 أغسطس الإجرامى الذى شرّد 300 ألف من سكان العاصمة، وأدى إلى جرح وإصابة أكثر من 6 آلاف، وقتل أكثر من 180 ضحية، وتدمير ممتلكات وعقارات ومصالح لا تقل قيمتها عن 15 مليار دولار أمريكى.
فى ظل الانتداب الفرنسى على لبنان تم إنشاء منصب رئيس الحكومة اللبنانية -لأول مرة- عام 1926، ورغم أن الدستور لم ينص على أن يكون رئيس الحكومة من الطائفة السنية الكريمة، فإن الميثاق الوطنى نص على ذلك الأمر.
تشكلت فى لبنان، حتى الآن، 87 حكومة، على مدار مائة عام يتم الاحتفال بمئويتها هذا العام.
جاء الاحتفال بمئوية لبنان الكبير فى أسوأ أوضاع البلاد داخلياً، وفى ظل مقاطعة سياسية عربية ودولية لنظام الحكم، وعدم وجود أى ثقة من الناس أو المؤسسات الدولية فى النخبة السياسية الحاكمة.
هذا كله يعنى أن رئيس الحكومة المقبل، كائناً من كان، سواء كان مرشح أمل وحزب الله، السفير مصطفى أديب، أو كان مرشح المتظاهرين والمجتمع المدنى، السفير نواف سلام، ففى نهاية الأمر حكومته قد توفيت سياسياً قبل أن تولد!
لماذا هذه الصورة قاتمة السواد؟
أى رئيس حكومة فى لبنان، تاريخياً، يجب أن يحظى بموافقة الكتلة الأغلب من الطائفة السنية.
أى رئيس للحكومة يجب أن يكون معروفاً، له رصيد شعبى فى العاصمة بيروت من شرقها إلى غربها إلى جنوبها.
وتقول لنا ذاكرة التاريخ إن عقدة العقد هى التوافق على تشكيل الحكومة فى لبنان.
وسواء كانت قصيرة سريعة، حيث كانت حكومة عمر كرامى الأولى هى الأقصر، حيث استغرق تشكيلها خمسة أيام فقط، بينما كانت أطول فترة استغرقها تشكيل حكومى هى حكومة تمام سلام، حيث استغرق تشكيلها 315 يوماً من المشاورات والشد والجذب.
وفى خلال ساعات يصل الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فى ثانى زيارة له خلال شهر كى يطمئن على حال لبنان، لكنه سوف يفاجأ بحكومة غير التى يتخيلها، لا تعبر عن أحلام الشارع ورغبات القوى الإقليمية والرعاة الدوليين.
وسوف يتأكد «ماكرون» -هذه المرة- أن لوردات السياسة وميليشيات السلطة ومافيا الفساد هم صناع القرار فى لبنان!
أى رئيس للحكومة يجب أن يكون -فى المجمل- نتيجة توافق أغلبية شيعية - مسيحية - سنية.
أى رئيس حكومة سنى إذا أراد أن يجذب استثمارات ومساعدات وسياحاً من دول الخليج فيجب أن يحظى أساساً بمباركة سياسية من «الرياض».
أى رئيس حكومة سنى يجب أن يكون له غطاء دولى من باريس (راعية المساعدات الاقتصادية)، وواشنطن (داعمة الجيش اللبنانى مالياً وتسليحياً).
كل ذلك يعنى أن رئيس وزراء لبنان المقبل عليه أن يواجه تحديات الإصلاح، والفساد، واستحالة الحياة، وإعمار بيروت، ومواجهة الكورونا، وإعادة تعويض وتأهيل ضحايا الانفجار، وإنقاذ الليرة اللبنانية، وكشف الحقائق عن انفجار مرفأ بيروت، وإنجاز المطلب الأمريكى بترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.
مطلوب من رئيس الحكومة المقبل أو المكلّف أن ينجز ذلك كله وهو يعلم سلفاً:
1- أنه غير حائز على الرضاء السنى.
2- غير حائز على موافقة كل التيارات السياسية (تيار القوات - تيار المستقبل - الحزب التقدمى الاشتراكى - بعض المستقلين - الكتائب).
3- غير حائز على رضاء دول الخليج العربى.
4- غير حائز على مباركة واشنطن وباريس.
والأهم من ذلك كله أن رئيس الحكومة المقبل لا بد أن يصنعه، خاصة بعد حادث المرفأ، الشارع اللبنانى الغاضب وليس القوى السياسية اللبنانية المتهالكة التى انتهى عمرها الافتراضى من أى رصيد شعبى.
إنها حالة من الفشل الجماعى: رئيس الجمهورية، رئيس البرلمان، القوى السياسية الموالية لهما، حزب الله، سوريا، إيران.
كيف يمكن أن تموت حكومة قبل أن تتشكل؟ وكيف يمكن أن ينتهى عهد رئاسى قبل أن يتم مدته؟ وكيف يمكن أن تصاب حفنة من الساسة بـ«الزهايمر فى الضمير» وغيبوبة فى فهم الواقع؟
هذا هو لبنان اليوم!!