بقلم - مصطفى الفقي
دعانى الكاتب الصحفى الراحل مكرم محمد أحمد إبان رئاسته للمجلس الأعلى للإعلام لكى أكون متحدثًا رئيسيًا فى ندوة جمع لها معظم الإعلاميين المصريين من كافة الصحف والقنوات الإذاعية والتليفزيونية، وكانت تدور حول قضية التعليم فى مصر، وكان وزير التعليم السابق الدكتور طارق شوقى ووزير التعليم الحالى الدكتور رضا حجازى على رأس الحاضرين لتلك الندوة المهمة، وتحدثنا كثيرًا حول مهمات تطوير التعليم فى مصر، وحول التحديات التى تواجهها والمعوقات التى تتعقب طريقها، وأتذكر أننى ألقيت كلمتى الافتتاحية بعد أن قدمنى الأستاذ مكرم -رحمه الله- وكانت تدور حول الفارق بين مفهوم السياسات ومعنى الإجراءات، ومازلت أسعد كثيرًا كلما التقيت الدكتور رضا حجازى وذكرنى فى مداعبة لطيفة بضرورة التفرقة بين مفهومى السياسات والإجراءات والتركيز على أهمية ذلك الأمر فيما يتصل بتطوير مناهج التعليم والتغيير فى أساليبه لأننا أحيانًا نستغرق فى الإجراءات إذ تغيب عن وعينا السياسات التى هى الأصل، وهى الأهم فى تحديد مسار العملية التعليمية فى كل دولة، ولأن نظامنا التعليمى عتيق نسبيًا بالنسبة للمنطقة التى تحيط بنا فإنه يجب ألا يستهان به ولا يزال خاضعًا لمدرسة دانلوب، فالتعليم الذى كان يهدف إلى تخريج موظفين فى مؤسسات الدولة وليس إلى الارتقاء بالشعوب أو تجسير الهوة بينها والتحليق معها نحو آفاق مفتوحة للعلم والمعرفة فى ظل التطور التكنولوجى الكاسح فى العقود الأخيرة، ورغم أن مدرسة التعليم المصرى قد وفد عليها كثير من الإعلام يتقدمهم عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين ورجال من أمثال إسماعيل القبانى وأحمد نجيب هاشم وحسين كامل بهاء الدين وأستاذ القانون الأديب الروائى د.أحمد جمال الدين موسى وغيرهم من الكوكبة المتميزة حتى وصلت البضاعة التعليمية بما لها وما عليها إلى الدكتور طارق شوقى ثم آلت حاليًا إلى الدكتور رضا حجازى، وهو عبء لو تعلمون عظيم ينوء بحمله الجميع، لأنها قضية تعليمية ثقافية وتكنولوجية عصرية تحتاج إلى رؤية صائبة وخيال خصيب يضع فى اعتباره ظروف الإنسان المصرى عبر العصور والتقاطع الواضح بين محورى الزمان والمكان وتأثيرهما فى تحديد بوصلة التعليم العصرى للوطن المصرى، ولقد كتبت فى الشهور الأخيرة عدة مقالات يدور محورها حول ديمقراطية التعليم فى مصر وكيف أنه تحول إلى تعليم طبقى يفرق ولا يجمع، يقسم ولا يوحد ويؤدى فى النهاية إلى منظور ضيق يصيب الأمة فى انصهار أبنائها واندماج طبقاتها بل يخلق عقدًا من الطفولة بين الأبرياء من الأجيال الجديدة، ولقد كانت لمقالاتى أصداء إيجابية شعرت بها إذ إن النظام التعليمى الحالى فى مصر مابين دينى ومدنى وعام وخاص ووطنى وأجنبى قد جعل الأمر كله أقرب إلى منطق الشركات الإستثمارية الساعية إلى الربح قبل التركيز على جوهر العملية التعليمية، ولست بذلك أدين الجميع، فهناك محاولات جادة وعادلة للخروج من هذا المأزق ولكن تظل المشكلة قائمة تحتاج إلى علاج جذرى يتصل فى المقام الأول بالسياسات ثم تتبعها الإجراءات، فنحن محتاجون إلى منطق فلسفى يؤدى إلى تطبيق مؤسسى وليس العكس، ونحن نأمل فى أن يدرك الجميع أن تطوير التعليم قضية وطنية أولى تحتل مرتبة مهمة فى مسيرة الوطن، وأنه لا يمكن أن نتصور وطنًا بحجم الوطن المصرى يترك مستقبل أجياله القادمة لمنطق الغنى والفقر وأسلوب الربح والخسارة، بل لابد من استناد ذلك النظام على قاعدة راسخة تسمح له بالمضى على طريق يؤدى إلى إنفراجة عصرية أمام التعليم المصرى وألا نسمح لمحاولات التعويق التى تؤدى إلى تطويق معايير التقدم ومنافذ الرؤية الجديدة، ولا أجد حرجًا فى أن أقول إننا يجب أن نستعين بخبرات دول سبقتنا وتجارب تقدمت علينا ولقد كان التعليم المصرى لعقود طويلة هو جوهر القوى الناعمة لبلادنا ويوم تراجع التعليم لدينا انكمش تلقائيًا دورنا الإقليمى والدولى، وها نحن نمضى الآن لاستعادته قويًا مؤثرًا كما كان ولتصبح مصر مركزًا للإشعاع ومصدرًا للمعرفة ومنطلقًا للتنوير كما كانت عبر العصور ولا يجب التذرع بقضية الإمكانات، فلقد عشت فى الهند سنوات أنا وأسرتى وتعلمت ابنتاى فى مدارسها تعليمًا رصينًا مثّل لهما ذخيرة لا تنتهى خصوصًا فى مجال اللغات والرياضيات والعلوم البحتة، ونحن لسنا أفقر من الهند، ولكنهم أقوى إرادة وأصدق عزيمة وأشد حرصًا على مستقبل الأمة الهندية التى أصبحت دولة فضاء ودولة نووية ودولة صناعية كبرى ودولة اكتفاء ذاتى فى الحبوب الغذائية.. دعونا نبدأ الآن ولو متأخرين نسبيًا عن غيرنا، فالدخول متأخرًا أفضل من الغياب كاملًا، ويجب ألا ننسى أن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة.