القاهرة - أسامة عبدالصبور
ها هي القلوب تنبض في إنتظار طلوع البدر.. ساعات الإنتظار لا تهم، فمتعة المشهد القادم تنسي الجميع مشقة الوقوف، بدأ الحفل ووقفت «فيروز» مستعدة للغناء ثم صدحت بـ "شتي يا دنيا" فأمطرت السماء ندى فوق رأس الجمهور الذي أجهش بالبكاء.. حدث هذا بالفعل في البرازيل خلال الثمانينيات، هذه هي جارة القمر الأيقونة التي وضعها محبوها فى إطار من القداسة، وساعدتهم مواقفها وشخصها وهيئتها الرقيقة التي تشبه أيقونة مسيحية في كنيسة مقدسة، أو بنتًا قروية تسكن في مدينة مجبرة على البقاء فيها، تصلح حبيبة وأختًا وابنة، تطفئ غدًا السبت الشمعة الثمانين من عمرها الذي قضته في رحلة فنية غنت فيها للأوطان، وللحب وللإنسانية.
أدركت «فيروز» مبكرًا أنها ترغب أن يراها العالم بزاوية مختلفة، لذا استخدمت ذكاءها الفطري لتغني ما يترك أثرًا يطول، ورفضت الأغنيات قصيرة الأجل، وغنت للأوطان العربية وللبشر، بعيدًا عن الحكام والرؤساء والملوك، وفي إحدى الوقائع تم منع أغانيها من البث لمدة سبعة أشهر في لبنان، وذلك لرفضها الغناء للرئيس الجزائري هواري بومدين.
كذلك صمتت فيروز طوال أعوام الحرب الأهلية اللبنانية عن الغناء، لكي لا تحسب على أحد، ورفضت ترك منزلها في بيروت رغم تعرضه إلى القذف بصاروخ، وفي عام 1994 وبعد انتهاء ويلات الحرب الأهلية الطائفية غنت ابنة الجبل في ساحة الشهداء الشاهدة على الدمار الذي خلفته القذائف والنيران، غنت للبشر والناس، غنت لكل أبناء الشعب، غنت لبيروت فقط، هذا ما وضعها في مرتبة القديسين عند الجميع على اختلاف انتماءاتهم الدينية والطائفية والعرقية والأيديولوجية، ولكنها كانت الملجأ الوحيد للتوحد، كان من قدرها أن جاءت في وطن فرقته الطائفية، لكن ظلت فيروز القيمة الوحيدة التي لا يختلف حولها الفرقاء، في الحرب اللبنانية، ظل لبنان وطنها، وسورية وطنها، لذا عند ما غضب البعض أنها ستغني في سورية، لم يفهموا "فيروز"، وعند ما أعلن زياد رحباني أنّ أمه تحب السيد حسن نصر الله غضبوا أيضًا لأنهم لم يفهموا فيروز.
فيروز التي قدمت مع زوجها الراحل عاصي الرحباني وأخوه منصور الرحباني المعروفين بالأخوين رحباني مشروعًا غنائيًا مُختلفًا له شخصيته العربية الصميمة، وأخذ من التراث الشعري العربي منهلًا ومنبعًا صافي للفن الروحاني الراقي، فبامتزاج صوت فيروز الملائكي بألحان الرحبانية الرشيقة والأشعار العربية الأصيلة ظهرت ملامح ذلك المشروع الكبير والتفرد في تاريخ الغناء العربي .
فأضاءت جارة القمر وقيثارة الشرق قلوب العاشقين وجسدت آلام الوطن لبنان بل والوطن العربي ككل، ولاقت رواجًا واسعًا في العالم العربي والشرق الأوسط والعديد من دول العالم بصدق إحساسها وصوتها الذي يعد من أفضل الأصوات العربية، فصارت من أعظم مطربي العالم ونالت جوائز وأوسمة عالمية.
ولدت فيروز في حارة زقاق البلاط في مدينة بيروت في لبنان لعائلة فقيرة الحال، وبدأت عملها الفني في عام 1940 كمغنية كورس في الإذاعة اللبنانية عند ما اكتشف صوتها الموسيقي محمد فليفل، وضمها إلى فريقه الذي كان ينشد الأغاني الوطنية، وألّف لها مدير الإذاعة اللبنانية حليم الرومي أول أغانيها وكانت إنطلاقتها الجدية عام 1952 عند ما بدأت الغناء لعاصي الرحباني، وكانت الأغاني التي غنتها في ذلك الوقت تملأ كافة القنوات الإذاعية، وبدأت شهرتها في العالم العربي منذ ذلك الوقت، كانت أغلب أغانيها آنذاك للأخوين عاصي ومنصور الرحباني الذين يشار إليهما دائمًا بالأخوين رحباني.
قدّم الأخوين رحباني معها المئات من الأغاني التي أحدثت ثورة في الموسيقى العربية، وذلك لتميزها بقصر المدة وقوة المعنى على عكس الأغاني العربية السائدة في ذلك الحين والتي كانت تمتاز بالطول، كما إنها كانت بسيطة التعبير وفي عمق الفكرة الموسيقية وتنوع المواضيع، حيث غنت الحب والأطفال، وللقدس لتمسكها بالقضية الفلسطينية، وللحزن والفرح والوطن والأم، وقدّم عدد كبير من هذه الأغاني ضمن مجموعة مسرحيات من تأليف وتلحين الأخوين رحباني وصل عددها إلى خمسة عشر مسرحية تنوعت مواضيعها بين نقد الحاكم والشعب وتمجيد البطولة والحب بشتى أنواعه.
وقد غنت لعديد من الشعراء والملحنين ومنهم ميخائيل نعيمة بقصيدة تناثري، وسعيد عقل بقصيدة لاعب الريشة وغيرها، كما أنها غنت أمام العديد من الملوك والرؤساء وفي أغلب المهرجانات الكبرى في العالم العربي، وأطلق عليها عدة ألقاب منها "سفيرتنا إلى النجوم" الذي أطلقه عليها الشاعر سعيد عقل للدلالة على رقي صوتها وتميزه.
ونحن حين نحتفل اليوم بذكرى ميلادها نتذكر أحد النعم التي أنعم الله بها علينا ونهنئ أنفسنا بها وهي صوت وإحساس "فيروز" الذي عاش وسيعيش إلى ما شاء الله يلقي ضيه الساحر في قلوب العاشقين وعلى جبال لبنان وربوع الأندلس وأروقة القدس القديمة وشط الأسكندرية، متمنيين لها دوام الصحة والعافية والإبداع وحاسدين القمر على جارته الرقيقة التي ذادت من نوره وجماله في العيون