رياض السنباطي

يصادف يوم الأثنين ذكرى ميلاد الموسيقار المصري الكبير رياض السنباطي، والذي قدم خلال حياته أرقى ما يمكن من كلاسيكيات الموسيقى العربية، وحفر اسمه في سجل الخلود الفني مع كبار الموسيقيين والملحنين بموهبته ومجهوده وإخلاصه.

ولد رياض السنباطي في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1906، ورحل عن عالمنا في 9 سبتمبر/أيلول 1981 تاركًا ثروة فنية عظيمة، واقترن اسم السنباطي باسم أم كلثوم وبتلحين القصائد وهو أبرع من لحن القصيدة ومن ألحانه كان أفضل ما غنته كوكب الشرق، وإليه ينسب الفضل في انتشار قصائد عربية عظيمة لم تكن لتنتشر لولا ألحانه، كما اشتهر بالألحان الرومانسية العذبة التي لحنها لأم كلثوم من كلمات  فارس الرومانسية الغنائية أحمد رامي، ليحتفظ السنباطي بمكانة عالية في سماء الفن طوال عمره الفني واستمر عطاؤه حتى السبعينات من القرن العشرين.

ورياض السنباطي فنان موهوب بلا شك لكنه محظوظ أيضًا!، فقد ولد لأب فنان علمه بنفسه مبادئ الموسيقى والعزف على العود في مدينة المنصورة ونشأ في رعايته الفنية، وهو بهذا يختلف عن معظم الرواد الموسيقيين الكبار الذين عانوا الكثير بسبب رفض أسرهم اشتغالهم بالفن، أو مجرد هوايته، ويشترك في ذلك مع محمد القصبجي الذي عاصره وكان والده موسيقيًا هو الآخر،  ولم تكن هذه هي أوجه الاشتراك الوحيدة مع محمد القصبجي كما سيتضح لنا فيما بعد.

بدأ رياض التجريب مبكرًا كمطرب فعرف بأدائه الرائع وكان معجبًا بألحان محمد القصبجي فحفظ له الكثير ثم انتقل رياض إلى القاهرة والتحق بمعهد الموسيقى.

وابتسم الحظ لرياض السنباطي عندما التقطته كوكب الشرق أم كلثوم لنفسها ملحنًا وكان قد بدأ يلحن لبعض المطربين والمطربات، وحتى ذلك الوقت لم يكن قد لحن لأم كلثوم غير بضعة ملحنين أهمهم محمد القصبجي، وزكريا أحمد وهم من فطاحل الموسيقى فكان السنباطي أصغرهم سنًا، وحققت أول أغنية لحنها لها من كلمات أحمد رامي نجاحًا كبيرًا وهي "على بلد المحبوب" ، ومنذ ذلك الوقت اقترن اسمه باسمها، واستمر في التلحين لأم كلثوم حتى بلغت ألحانه لها أكثر من 90 أغنية على مدى ما يقرب من أربعة عقود آخرها الثلاثية المقدسة عام 1972م وهو بذلك صاحب أطول قائمة ألحان لأم كلثوم بين جميع من لحنوا لها.

وبعد بضعة أعمال لأم كلثوم حقق رياض نجاحًا أكبر مع أغنية "افرح يا قلبي" من كلمات أحمد رامي أيضًا وإن ظهر فيها تأثره بأسلوب الأستاذ القصبجي، وكان قد سبق لرياض تلحين قصيدتين من شعر أحمد شوقي لأم كلثوم لكن "سلوا كئوس الطلا" كان لها حظ أوفر من النجاح، وفي نفس العام قام بتلحين بضع أغنيات لأم كلثوم من شعر أحمد رامي لاقت نجاحًا كبيرًا أشهرها أغنية "الورد فتح" ، ومونولوج "النوم يداعب جفوني" .

ووفق رياض السنباطي في لحن في منتهى الرشاقة لأم كلثوم من كلمات أحمد رامي هو "ح اقابله بكرة" وتميزت مقدمته الموسيقية القصيرة بتصوير عال للهفة وفرحة اللقاء أعقبها استهلال غناء أم كلثوم بجمل قصيرة متدافعة أكملت الصورة الشاعرية المتدفقة، ولو أنه كان ما زال متأثرًا بأسلوب القصبجي إلا أن القصبجي كان سابقا لعصره ولم يعبأ السنباطي أبدًا اللحاق بأستاذه على درب التجديد والذي سبقه في التلحين لأم كلثوم بـ12 عامًا.

وفي أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات ظهرت مجموعة أغاني القصار بصوت أم كلثوم اشتركت جميعها بالحداثة والسرعة والخفة إلى جانب قصرها غير المعتاد، فطول كل منها بضع دقائق لا غير، وتشابهت تلك الأغاني كثيرًا في أسلوب تلحينها وقد لاقى ذلك الأسلوب قبولًا كبيرًا لدى الجمهور، وفوق ذلك فقد تشابهت أيضًا في أنها استمرت تذاع بصفة مستمرة لعشرات السنين وكأنها صنعت لتوها، تلك المجموعة كان منها لرياض "افرح يا قلبي" 1937م ، و"ح اقابله بكرة" 1940م ، ومنها للقصبجي "ما دام تحب بتنكر ليه" 1940م و "يا صباح الخير" 1944م ، لتصبح مجموعة متميزة في تاريخ أم كلثوم الفني، ويبدو أن ذلك النموذج من الأغاني قد استهوى الملحنين الكبار في ذلك الوقت حتى أنه يصعب على المستمع التمييز بينها على أساس الملحن، على عكس الأغنيات الطويلة حيث المجال أوسع لإظهار شخصية الملحن وأضاف القصبجي إلى تلك المجموعة في نفس الفترة أغنية رشيقة أخرى ولكن بصوت أسمهان وهي أغنية "إمتى ح تعرف" اعتمدت نفس الأسلوب.

وشهد نفس العام مولد أغنية أم كلثوم الشهيرة "يا ليلة العيد آنستينا" على يد رياض السنباطي ومن كلمات رامي، وقد صاحب إعلان ظهور هلال العيد إذاعة تلك الأغنية كل عام، وباتت من علامات الاحتفال بمقدم العيد، بل أصبحت دليل الناس على ثبوت الرؤية، وتضيف ألحانها البديعة بهجة خاصة لليلة العيد.

وخلال الأربعينات كان على رياض منافسة ذلك العملاق، الملحن الذي يخشاه الجميع، الشيخ زكريا الذي بلغت ألحانه لأم كلثوم قمة الشرقية والطرب، وكان قد كون مع بيرم التونسي ثنائيًا عبقريًا وتميزت أعمالهما بغوصها في أعماق الفولكلور والجذور الشعبية للموسيقى ذات التأثير البالغ في قلوب الناس وتكفي الإشارة هنا إلى بضع من أعمالهما لأم كلثوم مثل، "أنا في انتظارك "، و"حبيبى يسعد أوقاته"، و"أهل الهوى"، و"الأوله في الغرام"، و"الأمل" وهي مجموعة من أروع ما لحن زكريا.

كما كان عليه منافسة عملاق آخر هو أستاذه محمد القصبجي الذي أتحف كوكب الشرق برائعته رق الحبيب عام 1944، وكان عام 1946 عام القمـــة وبداية الرومانسيات الطويلة والقصائد الكبرى، فقد شهد ذلك العام مولد أغنيتين شهيرتين لأم كلثوم من كلمات أحمد رامي على يد رياض السنباطي وهما "يا طول عذابي"، و"غلبت أصالح فى روحي" التي رد بها السنباطي على رائعة القصبجي "رق الحبيب" ومن نفس المقام " نهاوند" ، ويبدو أننا كنا سوف نشهد مسلسلًا رائعًا من الألحان المتنافسة بين الملحنين الكبيرين لولا توقف القصبجي عن التلحين لأم كلثوم بعدها إثر خلاف بينهما.

وأرست هذه الأغنية قدمى السنباطي في تلحين الأغنيات العاطفية الطويلة وأصبح له كلمة عليا فيه، بل أصبحت ألحانه العاطفية لأم كلثوم ذات طابع خاص اتسم بالشرقية الأصيلة والمحافظة على الأصول العربية للموسيقى مع جمال اللحن وحداثة تراكيبه، ورددها الناس كثيرًا وحفظوها عن ظهر قلب على طولها، وكانت بداية سلسلة طويلة من الأغنيات العاطفية التي شحنها الشاعر الرقيق أحمد رامى بكل رومانسيات الشباب وأحلامه ورقة شعوره وحلق الاثنان فيما بعد في سماء الرومانسية دهرا طويلا بل إن أم كلثوم ظلت لا تغني إلا لهما ما يربو على عشر سنوات.

وحمل عام 1947 نقلة جديدة حيث ابتسم الحظ ابتسامته الكبرى لرياض السنباطى ، فقد اختلفت أم كلثوم مع كل من القصبجي وزكريا وتوقف كلاهما عن التلحين لها ، وبذلك أصبح رياض الملحن الوحيد لأم كلثوم بلا منافس!، لكن كان عليهما معًا منافسة الأستاذ القابع فوق القمة ، محمد عبد الوهاب ، فقد كان عبد الوهاب ملحنا ومطربا ولم تكن هناك فرصة لمنافسة إلا مع نفسه ، وهو يسير كالقاطرة لا يوقفه شيء ، وهكذا وجد السنباطي نفسه وجها لوجه في مباراة مع الأستاذ الكبير ، ولعل مجموعة قصائد شوقي التي غنتها أم كلثوم كانت في سياق ذلك التنافس مع عبد الوهاب الذي كان قد أطلق مجموعة قصائده الكبرى التي رفعته إلى قمة الموسيقى العربية ومنها "الجنول، والكرنك، وكليوباترا، ودمشق، وفلسطين، ودعاء الشرق، والنهر الخالد ".

وتشدو أم كلثوم بأغنيتها الساحرة "ياللي كان يشجيك أنيني" ، ويرتفع معها نجم السنباطي للسماء، فاللحن شجي فعلًا بل وفي غاية العذوبة ويثير في النفس الكثير من العواطف والشجن الجميل ويبرز جمال أنغام الشرق الساحرة، وقد تغير تذوق الكلمات مع مرور الزمن وتوارت شيئًا فشيئًا صورة المحب الذليل في الأغاني، لكن اللحن لا يمكن اعتباره إلا من أجمل كلاسيكيات الموسيقى العربية.

وفي عام 1949 أنشدت أم كلثوم لأحمد شوقي إحدى روائعه "النيــل" والتي بدأت بمقطع إستهلالي رائع قال فيه أمير الشعراء "من أي عهد في القرى تتدفق" ومن لحن السنباطي في إضافة جديدة لقائمة أشعار شوقي، ولكن أحمد رامي الشاعر الذي حبس نفسه في شعر العامية ثارت لديه حفيظة الشاعر ففاجأ الجميع بمفاجأة كبرى، حين ترجم رباعيات الخيام الفارسية شعرًا إلى العربية وهي بالطبع ليست مهمة سهلة، بل دلت على براعة الرجل وتمكنه الكامل من اللغة والشعر، وكانت المفاجأة التالية أن يلحنها السنباطي بلحن عربي أصيل ويتسيد بها تلحين القصيدة، وموضوع القصيدة هنا قد تعدى الخلفية القومية والدينية والمذهبية إلى آفاق إنسانية واسعة تخاطب عقل الإنسان وشعوره في كل مكان.

ومرة أخرى نتساءل ما الذى كان يفعله هؤلاء الفنانون والشعراء في تلك الحقبة حالكة السواد من تاريخ الأمة العربية وقد انتشرت الأمية وضعفت اللغة وتهاوت الهوية وساد الاحتلال الأجنبي كل بقعة في الشرق وساد معه الهابط من الفنون والعادات، ورغم ذلك فإنهم ينقبون في درر الشرق الثقافية ويقدمون أعمق ما يكون من فكر في صور فنية غاية في الثراء والترقي، ومع هذه القافلة الفنية سارت قافلة أدبية من روادها أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، والعقاد، والمازني، وطه حسين، وتوفيق الحكيم وغيرهم كثيرون، وكانت تصدر مجلات وصحف وتنشر كتب مليئة بالنقد والتنوير.

وأين هذا من فناني اليوم وشعرائه؟ حيث لم يعد على الساحة غير المرتزقة وتجار الفن الرخيص؟! ، ولكن إن لم يكن هذا موضوعنا هنا فموضوعنا هو الإشادة بكل عمل محترم لا يخجل الإنسان من رؤيته أو سماعه ، ولن تقوم لنا قائمة إلا بترديد ما يعبر عن هويتنا ومشاعرنا بصدق وليس ما يملى علينا سواء من الخارج أو من تجار الفن في بلادنا ، بيد أن الفن ليس أشخاصا كما يبدو من هذه الزاوية ، فهو كغيره من الإبداعات البشرية فى العلوم والنظم والاكتشافات يحتاج لبيئة صالحة تساعده على النمو السليم ، وكيف تدلي الأجيال الجديدة بصوتها في منظومة التنمية والازدهار وهي غارقة في سطحيات المادية ؟!
فلقد بدأ نمو حركة النهضة الثقافية في أواسط القرن العشرين وكانت الموسيقى مادة تدرس في المدارس، ثم توقف تدريسها مع توقف أشياء أخرى كثيرة كالرياضة والهوايات والمسرح المدرسي والنشاط بكافة أنواعه، فانتشر الدجالون ومدعو الفن بين الشباب يسوقون أعمالًا لا تمت للفن الحقيقي بصلة والجمهور الجديد أصلًا لديه مشكلة هوية وانتماء وثقافة وإن حمل أعلى الشهادات!
وقف الخلق .. ينظرون جميعًا كيف أبني قواعد المجد وحدي .. هكذا أنشدت أم كلثوم قصيدة مصر تتحدث عن نفسها لشاعر النيل الكبير حافظ ابراهيم، وكانت إرهاصات انتفاضة مصرية امتدت آثارها البعيدة فيما بعد على المنطقة كلها، الكلمات تتحدث في فخر واللحن يزيدها فخرًا وعلوًا، وتضحى الجدية سمة أساسية، والسنباطى يتبنى قضية وطنه ويعبىء الشعب لانتفاضة قادمة لهوية طالما حاول القوى الخارجية طمسها ولكنها لم تمح أبدا من ذاكرته ، لم يعد الفن للتسلية ولا للصالات ، أصبح سلاحا وطنيا يحرك الشعوب ، وهو بذلك قد لحق بركب محمد عبد الوهاب الوطني
وتقوم ثورة يوليو في مصر ويبدأ عهد جديد في كل شيء ، ويستقر الفن على شيئين وهما ، التعبير عن الفرحة بقدوم عهد الحرية ، وزوال التوتر والألم من جراء معاناة الاحتلال والقهر واستبدالهما بمشاعر الاستقرار والأمل في المستقبل ومن ثم تغير لون الإبداع
واستمر رياض السنباطى ملحن أم كلثوم الوحيد ما يقرب من عشر سنوات أثبت خلالها عبقريته ومقدرته الفنية العالية، وكانت ألحانه يطلق عليها ألحان" دسمة" نظرًا لثراء أنغامها وتعبيراتها وأيضًا لطول تلك الأعمال وألحان رياض لأم كثوم لها طابع خاص ومذاق عذب جعل كثير من الناس ترى أن رياض هو أفضل من لحن لأم كلثوم، ألف 539 عملًا.