الشارقة – نور الحلو
إعترفت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي أن الأوضاع المأساوية التي يعيشها العالم العربي حرمتها من الكتابة لسنوات، موضحة أن مقولة الوطن العربي من البحر إلى البحر لم تعد كما عهدناها بعد أن إبتلع البحر الكثير من العرب، و"رمانا مشاريع دويلات على شواطىء التاريخ ".
وخاطبت صاحبة رواية " ذاكرة الجسد" جمهورها مساء الجمعة قائلة " ما كان يمكن أن أفوت موعدي معكم، فمعرض الشارقة للكتاب هو الحدث الذي أضافته الشارقة الى روزنامة أعيادنا، فغدا عيدنا المنتظ .كان للكتاب قبل الشارقة سوقا، وغدا بمعرضها شوقا يدوم بين معرضين. فما عاد الكتاب بضاعة بل غنيمة يعود بها القارئ مزهوا إلى بيته، فقد أصبحت القراءة حالة احتفالية في معرض غدا الثالث عالميا بعد معرض فرانكورت ولندن الشهيرين".
وقالت إن إنجاز معرض الشارقة لا يقاس بالأرقام الخرافية التي بلغها، بل بذلك الإحساس النادر الذي تصادفه على وجوه آلاف الزوار وهم يتنقلون بين أروقته.. إنه الشغف، الشغف للقراءة الذي افتقدناه في أكثر من بلد لأنه يتجاوز الرغبة الفردية لمطالعة كتاب، إلى القرار السياسي بجعل الكتاب ضرورة حياتية، ووسيلة لبناء المواطن العربي السوي الجديد . الشغف الذي نقله الشيخ الدكتور سلطان القاسمي لشعبه ولكل من يزور الشارقة في إمارة تنازلت عن سلطتها للكتاب، فحكم عليها الكتاب بالولع المؤبد .الشارقة، الشاهقة تواضعا ما عاد بإمكانها أن تحجب حضورها على خريطة المحافل الأدبية في العالم. لقد جعلها الكتاب حالة ضوئية .
وعبرت عن حزنها لما وصل إليه حال العرب "كنا نقول إن الوطن العربي يمتد من البحر إلى البحر، إلى أن ابتلع البحر الكثير من العرب، ذلك أننا لم نكن في ريبة منه، ونحن نختاره حدودا لهويتنا. غدر البحر بنا ككل من وثقنا بهم، ورمانا مشاريع دويلات على شواطئ التاريخ ".
وأضافت قائلة " دعونا إذن نعلن أنفسنا مواطنين في جمهورية الكتب، حيث الوطن يمتد من الحبر إلى الحبر. فلا يمكن لمن يبحر صوب الحبر أن يعود منه بشباك فارغة. إنه يعود من القراءة إنسانا حرا، يصعب استعباده. لذا، في جمهورية الكتب، القارئ حاكم مدى العمر،وبإمكانه رفع أو إسقاط ما شاء من أقلام من دون أن يخرج في مظاهرات أو يخل بنظام. إنه كائن متحضر علمته الكتب أن يفكر، وأن يعطي صوته للكاتب الذي ينطق باسمه، ويتولي قضيته وهو أجسه ينتمي بقبيلة حبره" .
وعن فعل وسائل التواصل الإجتماعي ودورها وتأثيرها في الحياة الثقافية، قالت الدكتورة أحلام مستغانمي "لقد أعادت وسائل التواصل الاجتماعية إلى القارئ سلطته وسطوته، وكذبت من اعتقد أن بإمكان الإعلام أن يصنع مجد كاتب، أو يهب الشهرة لمن شاء من أقلام . ها نحن متساوون على شاشة الحاسوب . في حضرة قارئ غدا الناقد الوحيد الذي يصدر على الكاتب حكمه دون محاباة ولا مجاملات كثيرا ما أفسدت مصداقية النقد الأدبي في العالم العربي .إنها معجزة التكنولوجيا التي حال نشرك نصا أو مقولة، تقدم لك تقويما لما تركته منشوراتك من أثر على القراء" .
وتذكرت إبنة قسطنطينة الجزائرية الشاعر الراحل نزار قباني والصداقة التي ربطتها به قائلة " كثيرا ما تمنيت لو عاش الراحل الكبير نزار قباني هذا الزمن، ليزهو بتعليقات قرائه وهي تنهال ثناء على قصائده .هو الّذي كان ينتظر هاتفي يوم صدور مقالة الأسبوعي في جريدة الحياة، لأقدم له انطباعي عنه. وحين كنت أبدي له إعجابي،.كان يسألني بالتفصيل عما أحببته، وما كان ذلك دليلا على أهميتي، بل على عظمته. فقط كان يحتاج الى من يطمئن، والى صديق يثق به، ينقل اليه الانطباع الأول. وحينها فقط كان يسعد، وكأنه إجتاز أول امتحان له في الكتابة. فوحدهم الكبار، لا يفارقهم الّذعر من نص، أصبح بعد نشره ملك القارئ ".
ووسط إهتمام الحضور المنجذب إلى حديثها الذي دغدغ مشاعرهم ، أضافت مستغانمي موضحة " لا أعرف عملا أكثر جرأة من إقدام المرء على نشر كتاب . فالمبدع الحقيقي كائن مرعوب بحكم إحساسه الدائم بأن كتبه ستعيش بعده، وأن كل ورقة يخطها ويرضى أن يراها مطبوعة في كتاب هي ورقة يلعب بها قدره الابي و سيحاسب عليها كأنه لم يكتب سواها ".
وتطرقت إلى ما نسي فلوبير عمله، فلوبير حين كان يقضي أياما كاملة في صياغة وإعادة صياغة صفحة واحدة، لتكشف لأي سبب غابت كتاباتها " ليس لهدا السبب وحده لم أصدر مند أربع سنوات رواية، بل أيضا لأنني أقف على الرمال المتحركة لعالم يتغير كل يوم، مشتتة، مترددة، أبدأ نصا عاطفيا، ولا أجرؤ على نشره والناس يموتون. وأكتب نصا سياسيا وأتوقف أكثر من مرة أثناء كتابته ".
ووصفت حالها كحال ملايين العرب بالقول " أنا تائهة، لا أعرف لي وجهة أمضي صوبها، فكيف أقود اليها قرائي؟ لم أجد ما يختصر تيهنا، وأسئلتنا المضنية ،وما تركه لنا الشاعر العراقي الراحل سركون بولص، عنوانا لديوانه " الوصول إلى مدينة أين " . فهل من يخبرني أين توجد مدينة أين ؟ التي نحن نحوها ماضون؟ لا أعرف أين أمضي بمراكبي الورقية " .
و اعتبرت الدكتورة مستغانمي " الكتابة فعل بقاء "، متسائلة " كيف لك أن تبقي على أرض غير ثابتة وأن تكتب وكل شيء حولك يحترق؟ الأرض التي تقف عليها تبتلعك. بين كتابين تغير العالم . أبطال الرويات شاخوا وماتوا. البطولات لم تعد على ورق. الأطفال الذين يقطعون المسافات مشيا على الأقدام دون زاد غدوا الأبطال ".
وإعتبرت الجوع الذي ينهك ويفتك ويقتل في أكثر من بلاد عربية. بأنه لم يترك من مساحة لأي جوع عاطفي . فالروائيون أنفسهم ما عادوا روائيين . فالآلاف من الشباب التائهين الذين رمت بهم الحروب إلى الشتات غدوا سادة السرد، قائلة "أنهم الأكثر موهبة، لأنهم الأكثر وجعا والأكثر خسارة ".
وعادت خريجة السوربون بالذاكرة إلى عقود مضت " قبل ثلاثين سنة عندما غادرت الجزائر كتبت" ذاكرة الجسد " تحت تأثير وعي بغربتي الأبدية . وقلت يومها وأنا انتقل من الشعر إلى الرواية " عندما نفقد حبيبا نكتب قصيدة، وعندما نفقد وطنا نكتب راواية " .. أبشروا فكل يتامي الأوطان غدوا روائيين .أعرف ذلك من صفحتي على الفايسبوك، التي تضم أكثر من عشرة ملايين متابع، ربما كان نصف هذا العدد من أبناء الغربة التائهين الذين غدت صفحتي وطنا لهم في زمن التيه والشتات. وهكذا وجدتني بدون سابق قرار أما للجميع وعلي ان احنو عليهم وأستمع إليهم. أو ليست المواساة جزءا من مهام الأدب؟ يقول غوته هكذا تحولت من كاتبة إلى قارئة لقرائي. فلم أجد من سند أقدمه لذريتي الأدبية إلا في تحويل صفحتي إلى أكبر ورشة إبداعية، وخلق منافسة جميلة بين القراء، يتسابق فيها الجميع على تقديم نصهم الأجمل، كي يفوز كل يوم أحدهم بفرحة رؤية نصه منشورا ضمن مختاراتي. وما زلت منذ سنوات، أتمنى ان أصدر كتابا مشتركا مع قرائي. فالكتابة نوع من الطب الوقائي لمن فقدوا كل شيء فهي تشعرنا بأننا أقوياء وأننا جميلون" .
وعن أهمية الكتاب ودوره، أكدت الدكتورة أحلام مستغانمي انه "مازال بإمكان كاتب أن يغير قدر قارئ، أن يغدو طرفا في قرارته، وأن يهبه في زمن الخراب وطنا افتراضيا، وحضنا أدبيا يلجأ إليه، وييبحر نحوه على مراكب ورقية، مجدفا بقلم. كما يجدف آلاف المهاجرين نحو بر النجاة. في زمن الحروب والهجرات والمآسي الإنسانية، لا يمكن إنقاذ إنسان بإهدائه كتابا فحسب، بل بمنحه فرصة أن يكتب ألمه ويروي قصته. ففي ذلك وحده عزاؤه. على الكتاب العرب أن يقوموا بالعمل الإنساني الوحيد الذي في متناولهم، وأن يتبادلوا الأدوار مع قرائهم، وأن يفتحوا لهم قلبهم وصفحاتهم . وأن يغدوا رعاة الحلم وحماة جماليي الوهم بالنسبة لأناس لا يملكون سلطة الإسم بل سطوة الألم . ولا أعرف للإبداع العظيم من وقود إلا الوجع. نعم يمكن بالكتابة تغيير مسار الإنسانية، فالأشرار لا يكتبون".
وتشعر مستغانمي بالعلاقة المميزة التي ربطتها بقرائها، ولهذا تؤكد على إستعدادها للتمسك بهم " لقد منحت لأولئك الذين لاذوا بي وأخلصوا في حبي، كل وقتي. والوقت أغلى ما أملك. أظنني خسرت كتابا أو كتابين أثناء تحولي من كاتبة إلى قلرئة لقرائي. وكأنني أقاوم شعوري بالندم، وأنا أطالع الإصدارات الجديدة لغيري. لثقتي أن هديتي كانت لأهلي وقبيلة حبري، ولأقرب الناس إلي".
وأشارت إلى أنه لكل هذه الأسباب "ينتمي الروائيون إلى مدنهم، ويتقاسم الكتاب معشوقاتهم، ولنا مع كتابنا المفضلين حياة افتراضية في كتاب. لنا عشاق نواعدهم معهم، ومقاعد نجلس عليها بمحاذاتهم، وأخرى تخدلنا. لنا أصدقاء خسرناهم، وشهداء بكيناهم، كما لو كانت لهم قرابة بنا، وأبطال في روايات أصبحوا أقرب لنا من أهلنا. لنا كلمات كأنها سرقت من أفواهنا وحكايات كأنما هي تلصص على أسرارنا . ثمة كتب خط حبرها من فصيلة دمنا، إلى حد يجيز لنا رفع دعوى على الكاتب، لأنه لم يضع على الغلاف مع اسمه اسمنا ".
وفي ختام كلمتها ذكرت الحضور بالكاتب الراحل نجيب محفوظ "يبقى أن أنقل إلى أحبائي وروائيي وكتاب المستقبل ما تركه لنا نجيب نحفوظ من وصية حين قال :
" وصيتي إلى الكتاب، لا تكرسوا حياتكم للأدب، إلا إذا كنتم فدائييه، ولا تقتلوا أرواحكم به، إلا إن كنتم مجانينه " تحياتي أحبتي . ها أنا قد بلغت.