بغداد- نجلاء الطائي
"القشلة" هذا الصرح الكبير الذي ينتصب شامخًا وسط بغداد على ضفاف نهر دجلة والذي يضاهي في بناءه ساعة (بيغ بن) في لندن، يفد إليه الكتاب والأدباء والزوار من كل مكان للاستمتاع بجماله وتاريخه العريق، وترجع خصوصية القشلة كمكان للمثقفين لقربها من شارع المتبني في بغداد الذي يحتضن نهار كل جمعة فعاليات مختلفة من الشعر والمسرح والرسم ومعارض الكتب، إضافة إلى لكون حدائقها تشهد تنظيم الكثير من المظاهرات والمسيرات للمثقفين العراقيين بعد الاحتلال الإنكليزي مما جعلها مكانًا لتجمع المثقفين.
"نذهب إلى هنا لنعبر عما نفكر فيه، ويرى المثقفون أعمالنا"، بهذه الكلمات تحدث الشاب العراقي فرحان عن "القشلة" ذلك المكان الذي يلتقي فيه الفنانون، والمثقفون، والمبدعون، الجمعة، من كل أسبوع.
وأوضح كوكب السياب أحد المثقفين العراقيين من رواد "القشلة" إلى "العرب اليوم": "نأتي إلى هنا نهاية كل أسبوع، نلتقي بأصدقائنا المثقفين، الذين لا نجدهم إلا في هذا المكان، فهو المتنفس الوحيد لنا، نعبر فيه عما بداخلنا، ونشارك في الفعالية التي نرغبها"، ويضيف "سابقًا كنا نلتقي بأحد المقاهي ولكنه لم يعد يتسع إلى هذا العدد الهائل من المثقفين والنخبة". ومثله حضر مجيد الصباغ وهو فنان تشكيلي إلى "القشلة" لينحت تمثالًا، فالمكان، بحسب قوله، "مركز للتنفس لكل الأدباء والشعراء"، لافتًا إلى أنه "يمتلك أعمال أخرى سيعرضها لاحقًا في شوارع بغداد".
وقال الشاعر أحمد النائل: "أشعر براحة النفس، وصفاء الذهن عندما أزور هذا المنتجع الذي يجمع بين التاريخ والثقافة ، فموقع القشلة جدار حر لابد من زيارته من أجل التعبير عن آراء الناس البسطاء، اما المواطنة أم عمر من منطقة السيدية أوضحت: " آتي مع عائلتي إلى ساعة القشرة لتتنعم في معالم هذه الساعة الأثرية التي أصبحت متنزه للعوائل البغدادي ، لذا يجب الاهتمام بهذا المعلم الجميل الذي يعبر عن أصالة مدينة بغداد".
* تاريخ القشلة
قيل أن القشلة كانت تسمى (قشلاغ) لكن صعوبة لفظ اللسان البغدادي للكلمة فسميت بالقشلة اختصارًا لها وهي لفظه عثمانية وتعني المقر أو الثكنة العسكرية، وقد بنيت من أجل إعلام العسكريين العثمانيين بالوقت وتعود فكرة بنائها إلى الوالي محمد نامق عام 1850 وأكمل بناءها الوالي العثماني مدحت باشا عام 1869.
وشهدت هذه الساعة تتويج الملك فيصل الأول ملكًا على عرش العراق عام 1921، ويقارب ارتفاعها 30 مترًا وهي ألمانية المنشئ والحجر المستخدم في بناءها كان أحد أسوار بغداد الذي بني من أجل حمايه المدينة من الأعداء قبل مئات السنين وتحتوي في داخلها على 6 مسننات وهي ذات أربعة أوجه تمتاز بالدقة حيث أن البغداديين كانوا يضبطون ساعاتهم عليها.
وتعاني هذه الساعة من الإهمال الحكومي منذ عام 2003 وعدم الاهتمام بها إلى أن توقفت عن العمل تمامًا منذ أكثر من عام عندما حصل انفجار في شارع المتنبي القريب منها أجبر دقاتها على التوقف عن النبض ودمر أجزاء منها وسط صرخات من أهالي بغداد بإنقاذ هذا المعلم المهم الذي يحكي قصه أكثر من 140 عامًا من التاريخ.
* مقر الحكومة العثمانية
كانت القشلة مقرًا للحكومة العثمانية في ستينات القرن الماضي، وموقعه المميز بالقرب من شارع الرشيد ونهاية شارع المتنبي أحد أهم شواخصها الحاضرة حتى اللحظة، عبر اتصاله بدوائر الحكومة، وتفرده ببيع الكتب العلمية والأدبية وتجارة القرطاسية.
ويقول الحاج يوسف أفندي، 76 عامًا وأحد أقدم العاملين هناك: "يتميز السوق بتكدس المحلات على جانبي هذا السوق، وهو سوق ضيق وصغير، لا يتعدى طوله 300 مترًا ولا يزيد عرض ممر المشاه فيه على 3 أمتار، كانت تسميته مقترنة بوظيفته الجغرافية ولم يكن حتى ذاك الوقت قد امتلك شخصية سوق المكتبات والوراقين، بل كان معنيا بالخدمات المرتبطة بأعمال الموظفين والمراجعين لدوائر الحكومة، إضافة إلى كونه الشريان الذي يربط الحياة الاجتماعية الهادئة لأهل بغداد بدوامة دوائر الدولة والوظائف والسلطة والسياسة.
ويضيف: "يلاصق سوق السراي (الذي يعد الوريث الشرعي لسوق الوارقين)، من جهة النهر بناية المدرسة الإعدادية العسكرية في العهد العثماني التي شغلت فيما بعد من قبل المحاكم المدنية، ومن أشهر الأكلات التي اشتهر بها السوق وأخذت اسمه منها هي (كبة السراي) التي تعتبر من ألذ الأكلات العراقية وأشهرها.
ومن أهم الأسواق المحاذية لسوق السراي والتي اكتسبت شهرتها كذلك سوق السراجين المختص بمشغولات جلدية يدوية، إضافة إلى خان لتجار مواد الأحذية ومخازن تعود إلى بعض أصحاب الحوانيت، وفيه مدخل لسوق الصاغة يسمى سوق (الشاهبندر) وكان معظم شاغليه من اليهود، ويتصل سوق السراي ببناية القشلة، فهو يربط بين العصر العباسي والعهد العثماني، وتقع منطقة القشلة، أو مقر الولاة، التي شيدها الوالي مدحت باشا عام 1869م لاتخاذها معسكرًا للجيش والدوائر التابعة له، وهي ذاتها البناية الجديدة التي شغلها الحكم الوطني عام 1921م ويضم لها أبنية مجاورة ومتقاربة، مثل دار الملك فيصل الأول (قصر الثقافة والفنون حاليًا) ومجلس الوزراء. ووزارة الدفاع وتوابعها التي شملت التجنيد ونادي الضباط والسجن المركزي ومستشفى المجيدية (الجمهورية لاحقًا).
ولبناية القشلة مدخلان الأول يتوسط واجهة المبنى المطلة على شارع السراي وهو عبارة عن مدخل قليل العمق يتوجه عقد نصف دائري على غرار عقود النوافذ القائمة على جانبي المدخل وقد ازدانت الواجهة بحشوات مستطيلة الشكل توجد بداخلها زخارف أجّرية أضفت على المبنى مسحة من الجمال وفي نهاية واجهة المدخل تقوم واجهة مقوسة على غرار واجهة المعبد الروماني في الحضر ومن الصور القديمة للمبنى والمحفوظة في أرشيف قسم الدراسات في دائرة الآثار والتراث نرى واجهة المبنى المطلة على النهر تزدان بشرفة مسننة وهذه الشرفة لا أثر لها في الوقت الحاضر.
وبالنسبة إلى المدخل الآخر فهو يتوسط الضلع الجنوبي ويتكون كل باب من مصراعين من الحديد المزدان بمسامير حديدية موزعة بانتظام وهذا النوع من الأبواب الضخمة كان شائعًا بشكل واسع في بناء مداخل المباني المدنية والعسكرية منها القلاع والخانات التي بنيت في العراق خلال الحكم العثماني.
وتؤكد المصادر البحثية المختصة أن مبنى القشلة له أكثر من وظيفة، اختلفت بحسب التغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدها العراق، ففي البداية وإبان الحكم العثماني كان عبارة عن ثكنة وسراي كبير على ضفاف دجلة في جانب الرصافة ليكون مقرًا له ولجنده فبوشر بالبناء في بداية سنوات ولايته الأولى على نحو شبيه بالأبنية العثمانية التي كانت سائدة في تلك المرحلة.
وصار المبنى فيما بعد أعجوبة لأهالي بغداد من حيث العمارة والفخامة، وقد تم توسيعه وزيادته بطابق ثان في عهد الوالي العثماني مدحت باشا وأضاف إليه برجًا عاليًا في وسط الساحة وتوجها بساعة كبيرة تساهم دقاتها بإيقاظ الجنود وهذا يعني أن المبنى كان ثكنة عسكرية للجنود العثمانيين واتخذ المبنى بعد الاحتلال الإنكليزي للعراق عام 1917 مسكنا للضباط الإنكليز وعائلاتهم.
ولفخامة بناية القشلة في ذلك الوقت فقد شهدت حدثًا مهمًا في حياة العراق وتاريخه ذلك هو مراسيم تتويج الملك فيصل الأول ملكًا على العراق عام 1921 وتحولت قاعاتها وأروقتها إلى مقرات للحكومات العراقية المتعاقبة والوزارات وكذلك شهدت القشلة أيضا بداية تأسيس وزارة المعارف (التربية الآن) التي بدأت بمديرية عامة للمعارف وكذلك تأسيس المتحف العراقي الذي اتخذ من إحدى قاعاته مقرًا له عام 1923.
ولم يأت اختيار بناية القشلة من قبل ولاة بغداد العثمانيين من فراغ بل إن حسن الموقع وبهائه كونه يطل على ضفاف نهر دجلة حيث كان يوفر الأجواء التي تقلل من معاناة قيظ بغداد اللاهب وتذكر الولاة وكبار مستشاريهم وموظفيهم بتلك البيئة الباردة التي قدموا منها، كما أنها تأتي لتجاور عددًا من الأبنية التاريخية المهمة في بغداد ومنها القصر العباسي ودار الوالي وقبة السراي والمدرسة المستنصرية وجامع الوزير.
وكشف صلاح عبد الرزاق محافظ بغداد السابق: " ساعة القشلة أول ساعة في بغداد، وكذلك هي أصغر بعشر سنوات من عمر ساعة بيغ بن اللندنية الشهيرة والمنصوبة في برج مجلس العموم البريطاني، وشملت الترميمات بناية القشلة والساعة ونصب بوابة حديدية مشابهة لنصب قصر باكنغهام في لندن، إلى جانب نصب 12 مدفعًا قديمًا بجوار النهر قدمتها وزارة السياحة العراقية، كي تكون متنفسًا للبغداديين ومركزًا حضاريًا وثقافًيا ومرفقًا سياحيً يؤمه الزوار والسياح".
*حماية المواقع الأثرية مسؤولية مشتركة
ومن جانبه أوضح المخرج محسن العامري أوضح أن العوائل تتوافد وبشكل كبير خصوصًا في أيام العطل إلى هذا الموقع الجميل ويتمتعون بالمناظر التي تذكرهم بأمجاد مدينتهم وخصوصًا عندما ينظرون إلى ساعة القشلة وهي تحيهم بدقات أجراسها ، مشددًا على ضرورة الحفاظ على هذا الموقع الأثري من المسؤولين والمواطنين.