دبي - العرب اليوم
تعتبر "فرسان العَلَم" قصيدة عِزٍّ وفَخار، خرجت من نبعةِ القلب في أحد عشر بيتاً، جاشت بها قريحة حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، تعبيراً عن أعمق معاني الولاء والوفاءِ للوطن وقائده الرمز، حكيم الشيوخ وشيخ الحكماء، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ذلك الفارس الساكن في أعماقِ أبنائه وأحبابه ومواطنيه، بل وفي أعماق كل العرب والمسلمين، فقد كان منذورَ العمر لمصالح الأمة، ساعياً في جمع كلمتها، نموذجاً في البذل والعطاء والحب، باذلاً كلّ غالٍ ونفيس في سبيل مجد الإمارات وشعبها الطيّب الكريم، الذي يحتضن ذكراه في حنايا القلب: ذكرى خالدة لا تغيب.
فالعلم ليس قطعةَ قماش ملونة، بل هو رمزٌ للشخصية الوطنية وكبريائها الذاتي، وما دام العلم مرفوعاً، فإن الهامات تبقى مرفوعة، وإذا سقط العلم سقطت الإرادة واستفحلت الهزيمة وانتكست العزيمة، لذلك، كان الفرسان الشجعان هم المختصّون برفع اللواء والذود عنه مهما بلغت التضحيات، ومن منا ينسى ذلك الموقف البطوليّ الخالد لفرسان الإسلام الثلاثة: زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، وكيف أنهم استبسلوا في الموت من أجل ألّا يسقط لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا، بل إن جعفر الطيّار قد قُطعت يداه الكريمتان، فاحتضن اللواء بعَضُديه كي يبقى مرفوعاً، لأن في رفعتِه رِفْعة الأمة والرأس والمعنويات.
يقول الشيخ محمد بن راشد:
بذرة الكرامة الوطنية
العلم لِي كانْ زايدْ رافِعَنَّه
هوْ أمانِتْنا نعيش ونِرفَعَهْ
بالدّما لِهْ نِفْتدي وِنْذودْ عَنَّهْ
وفي القلوبِ وفي المشاعِرْ نِزْرَعه
يخاطب هذا المطلع الرائع، واحدةً من أعمق النقاط اللامعة في قلوب شعب الإمارات الوفي، هي حبُّهم لباني دولتهم وحادي ركبهم، المغفور له، الشيخ زايد، رحمه الله، الذي أفاضَ عليهم من حُبِّه وعطائه، وبذر في قلوبهم بذرة الكرامة الوطنية، وغرس في وجدانهم شجرة المجد والفخار، وامتطى صهوة جواده، وهو يحملُ علمَ بلاده ليرتقي به الذرى العالية، ويغرزه في قمَمِ الجبال، وهم يسيرون خَلْفَه بحبٍّ وولاءٍ منقطعي النظير.
وإذا كانت الشعوب تنسى ملوكها بعد غروب شمسهم، فإن التاريخ شاهد أن شمس الشيخ زايد، رحمه الله، لا تزداد إلا سطوعاً وتوهّجاً، وأنه نموذج في العطاء وإدارة الدولة وحب الشعب له وحبّه العظيم لشعبه، وهو شيءٌ لا يتفرّد به إلا القليل القليل من الحكّام الذين يبنون مجدهم على الصدق والبساطة والعطاء الجزيل.
وحين يذكر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، اسم الشيخ زايد، فإنّه يعرف قيمة هذا الاسم في وجدان الإماراتيين، فهو قدوةٌ خالدة في الخير والشجاعة، وشعبُ الإمارات كان وما زال وسيبقى مرفوع الرأس بذكرى شيخ العرب وحكيمها، الذي أحبّته كل شعوب الأرض، بسبب النبل الجليل الذي كان يُشِعُّ من عينيه، وإحساسه الأبوي تجاه أبناء شعبه، ورغبته الصادقة وسعيه الدؤوب في أن يراهم في مقدم الأمم المتحضّرة.
ولا يُخيّب الشيخ محمد بن راشد، رجاءه وأمله، بل يؤكد له أن أبناء الإمارات يفتدون علمهم ولواءَهم بالدم، ويذودون عنه بالمُهَج، ويُقدّمون الغالي والنفيس في سبيل أن تظلّ راية الوطنِ خفّاقة في الأعالي، ثم يؤكد أن هذا العلم مزروع في تربة القلب والمشاعر، وأنه جزء من صميم الذات، فهو مَعْقِدُ العِزِّ والفَخار، وهو مُتجذّرٌ في تربة القلب، يسقيه أبناؤه من دماء الروح، ولا يزداد مع الأيام إلا رسوخاً وثباتاً. وما أجمل نون التوكيد في اسم الفاعل «رافع»، حيث جاءت مخالفة لقواعد النحو، لكن الشعر المتدفق من الروح، لا يهتمّ للقواعد في سبيل المعنى الجليل. فيقول في قصيدته:
للوطنْ مِنّه ولهذا الرمزْ مِنّه
في يد القايد وشَعْبه يتبعه
في هذين البيتين، يتمّ التوحيد بين الوطن وقائده خالد الذكرى الذي لا يغيب، فهو رَمْزٌ، والرمز من سماتِه الخلود، وليس عجيباً أن يكون اسم الشيخ زايد، رحمه الله، موازياً لاسم الإمارات، وما ذلك إلا لأن هذا القائد الشجاع، قد نُقش اسمه على صخرة الوطن، وفي سويداء القلوب، من خلال ثقافة المحبّة والعطاء، فما كان والله من الملوك الجبابرة، ولا من السلاطين المترفّعين، بل كان آيةً من آيات الله في التواضع وخَفْض الجناح، والعطاء من قلب فيّاض بالحبِّ لأهله وقومه ووطنه، وإذا كان العظماء يستمدون عظمتهم من الجبروت والسلطة والقوة، فإن الشيخ زايد، رحمه الله، قد استمدّ عظمته من الرحمة والحب والطيب والسماحة والشجاعة.
وستبقى الإمارات وشعب الإمارات بخير، ما دام هذا الوطن: قيادة وشعباً، محافظاً على ذكرى هذا السراج الوهّاج، الشيخ زايد، رحمه الله، ومستلهماً ذكراه الطيبة، ومقتدياً بأخلاقه الميمونة، التي اجتمعت فيها كلّ شمائل الفرسان وملامح العِزّ والمَجْد، فقد كان الشيخ، رحمه الله، سماءً ماطرةً بالخير والغيث على أرض الإمارات، وكان قمراً مضيئاً في سمائها العالية، وكان نبعاً فيّاضاً بالحب والسماحةِ والسهرِ على راحة الشعب، والسعي في رِفْعةِ شأن هذا الوطن الغالي، فكيف لا يكون هو رمزه الأعلى، وشيخه وفارسه الساكن في أعماق القلوب.
ويقول الشيخ محمد عن الفروسية والأصالة:
نِحنْ فرسان العَلَم أهل الأعِنّه
سامعه عنّا الجهات الأربعه
في هذا المقطع، تعلو نبرة الفروسية، ويتمّ تعميق الولاء للوطن والرمز، وبلغةٍ بدويةٍ صافية، يتمُّ التأكيد على لسان صاحب السموِّ الشيخ محمد بن راشد، أن الإماراتيين هم حُماةُ هذا العَلَم، وهم الذين يحتضنون مَجْدَه، ويصونون رِفْعَتَه وشموخه، كي يظلّ عالياً مرفرفاً في الأعالي، ولا عجب، فهم فرسان الأعنّة، والأعنّة جمع عنان، وهو عنان الفرس، الذي يشكم به الفارس جُموحها ونفارها.
ولا يقوى على ذلك إلا الفارس المتمرّس، الذي يُلاعبُ الريح وهو يمتطي صَهْوة جواده، فالفروسية كانت وما زالت وستبقى واحدة، من أعمق الدلالات على الشخصية العربية التي تعشق الحرية والمجد، وترى رياضة النفس في ركوب الخيل، التي رفع الله من شأنها، وأقسم بها في كتابه، حيث قال سبحانه (والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا)، وأثنى عليها رسولنا صلى الله عليه وسلم، حين قال: الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
ثم تعلو وتعلو نغمةُ الفخر في كلام صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد: سامعة عنا الجهات الأربع، فسمعةُ الإمارات قد أصبحت مثل ضوء الشمس لا تغيب عن جهات الأرض الأربع، وهذا كناية عن انتشار الذكر الجميل في الأرض، لكثرة الإنجازات وسرعةِ وتيرةِ التقدّم في وطنٍ يلتفُّ أبناؤه حول قيادتهم، ويفتدون راية عزّهم بالمهج والأرواح.
وعن المنعة والتماسك يوقول حاكم دبي في قصيدته:
من عزايمنا المعادي خابْ ظَنّه
فِعلنا يشوفه قبل ما يسْمَعه
والأوطان لا يحميها إلا الرجال أصحاب العزيمة القوية، والفرسان الشجعان، وهنا، يفتخر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد، بعزائم أبناءِ الإمارات الذين يعرفون قيمة وطنهم، ويخيّبون ظن الأعادي، من خلال وحدتهم وعدم السماح لأي كائنٍ غريبٍ بالتسرّب داخل نسيجهم الوطني المتين، فهم يقفون صفّاً واحداً في وجه كل من يبغي تفريق صفّهم وتشتيت شملهم، لأنهم يعرفون أن الفُرقةَ هي سبب الفشل، وأن التنازع هو مَدْرَجَةُ الخراب "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".
أبناء الإمارات الشجعان
حُولْ رايتنا قلوبٍ مطمئنه
صادقه حُول العَلَمْ متجمعه
وهذا هو سر الثبات والعزيمة: إنها القلوب المطمئنة الثابتة حول رايتها، تسهر على رفعتها وإبقائها خفاقة في الأعالي، فالأوطان لا يحرسها الجبناء أصحاب القلوب الخاوية المسكونة بالذعر والخوف، وإنما يحرسها أبناؤها الشجعان المؤمنون بقدسيتها، الحريصون على رفعة شأنها، الناظرون إلى الوطن على أنه قطعة من القلب، وليس مجرد قطعة من الأرض، يسكنون عليها ويأكلون من خيراتها، ثم يغادرونها ويخذلونها عند أول امتحان:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ
وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرامُ
والقلب هو موطن الحب والإرادة، وحين يستقر حب الوطن في القلب، فقد استقرّ في مكانه المكين الأمين، فكيف إذا كانت هذه القلوب صادقة الحب، قوية الإرادة، متكاتفة الأيدي مبسوطة الراحة بالخير والبذل والعطاء:
مِنْ ذَكَرْنا بشرّ يا ويلَهْ لأنه
نِقْطَعَهْ شَرّه، وراسَه نِقْطعه
إن السماحة ولين الجانب وخفض الجناح، لا تكفي وحدها في حماية الوطن وصيانة حقوقه وتسييج حماه من الطامعين، وعليه، فلا بدّ من الحزم وإظهار الجانب الآخر من القوة والصلابة لردع جميع المتربصين بالوطن، ومن هنا، جاء هذا البيت الحازم الحاسم القاطع لجميع الأطماع، من خلال نبرة تهديد قوية لكل من تسوّل له نفسه الأمارة بالسوء، الاقتراب من حمى الإمارات المنيع وشعبها الطيب.
فيكون السيف لهم بالمرصاد، لاستئصال شأفتهم وقطع دابرهم، عملاً بقوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، فسمّى الله سبحانه، الدفاع عن النفس، اعتداء من باب المشاكلة اللفظية، وإلا فهو طاعة وقربة، وليس من الدين ولا من الرجولة في شيء، أن يقف الإنسان متفرجاً على وطنه، حين يرى الناس يقصدونه بالأذى والانتقاص، وأين هي الكرامة بعد أن يُهان الوطن؟!!.
لكن الشجعان الأحرار، هم الذين تَحْمَرُّ أنوفهم ويغضبون ويثور الدم في عروقهم غضباً لكرامة وطنهم، وذوداً عن حياضه، فهم لا يرون لأنفسهم كرامةً ولا قيمة، حين تُهان كرامة وطنهم، ويا خيبة الأوطان حين يخذلها أبناؤها ويلوذون بالصمت والجبن والفرار أمام الطامعين، فإنهم إن فعلوا ذلك، خاب فيهم ظن الوطن، وسقطوا من عين التاريخ، ولم يذكرهم الناس إلّا أسوأ الذكرى، وهل تُحْمى الأوطان إلّا بالغضبِ لكرامتها من امتهانها وإذلال كرامتِها.
قيمة وسمة
صفْنا واحدْ أبَدْ ماجَتْهِ هِنِّهْ
من سنَةْ سبعينْ ماحَدْ زعزَعَهْ
فهذه هي الإمارات العربية المتحدة: صفٌّ واحدٌ متراصٌ متماسكٌ، مثل الجدار القويّ الذي لا تخترقه السهام، ومنذ خمسين عاماً إلّا قليلاً، والإمارات متوحدة خلف قادتِها، ما أصابها سوءٌ ولا مكروه، فالوحدةُ هي سرُّ القوّة، تماماً مثل الجبل الراسخ الذي لا تزعزعه الرياح.
إن الوطن مثل قلادة اللؤلؤ، قيمتها في تماسُكِها وبقائها مرصوفة واحدة جنب الأخرى، فإذا انفرط العقد ذهب بهاؤه، وفقدت جواهره قيمتها بعد انفرادها، وهو مثل حزمة السهام، لا قيمة لها إلّا في اجتماعِها، وكم تخسر الأوطان حين تهبُّ عليها رياح الفرقةِ والفِتَن، وتتحوّلُ قلوب أبنائها عن الولاءِ لها، فيغدو الوطن مثل السفينة التائهة في عمق البحار، بعد أن خذلها ربَّانُها، وكم تحتاج الأوطان إلى هذه النفحات القوية التي تشحذ العزائم وتُذكي نار المجد، وتجعل عيون أبناءِ الوطن عيون صقورٍ مفتوحةٍ على سمائه، لا تسمح للغربان بالنعيقِ في سمائه الصافية المعمورة بالمحبة والخير والعطاء.
ثم يزداد الشيخ محمد بن راشد، شموخاً بهذا الوطن، ويقرر بلغةِ الفرسان، أن تاريخ الإمارات تاريخ مشهود، له حنَّه ورنَّه، وهو تعبير عفوي شعبي عميق الدلالة على المكانةِ العالية والشهرة المستفيضة لمكارم الوطن، تماماً مثل صوت الربابة الشجي، الذي يفيض حنيناً ورنيناً، ويطرب له العربيُّ الأصيل، وتفور عروقُه بدماءِ الكبرياء والأصالة.
فخر وهامات مرفوعة
والعَلَمْ الأرواحْ في الشِّدِّه فدَنِّه
رمزنا الخالدْ ومَجدِهْ نصنَعَهْ
ثم يدور القلب مرة أخرى في فلك العَلَم، ويرجع إليه مؤكداً أنه لن يخذله، لا سيّما في الشدائد، فهو يفتديه ويقدّم ماءَ القلب كي تروى منه شجرة الوطن، فإن الوطن شجرةٌ وارفة الظلال، وفوق قِمَّتها عَلَمُ الوطن، يلوح مثل منارةِ البحار تهدي السائرين، وحول ساق الشجرة يلتفُّ أبناءُ الوطن مرفوعي الهامات، افتخاراً برايتهم العالية، صانعين بذلك رمزهم الخالد، ومَجْدَهم الذي لا يُهادنون في سبيل حمايته وبَذْلِ الأرواح، حفاظاً على كرامته وذوداً عن حماه.
القلب موطن العلم
إرفعوهْ وحيُّوا قلوب حَمِنِّه
وكلِّنا في وقتْ واحدْ نرفَعَهْ
ثم يأتي النداء الصادر من أعماق القلب: ارفعوا علمكم ولا تخذلوه، وسَلِّموا بالتحية والسلام على القلوب التي تحميه، فهي لا تحميه نفاقاً ولا طمعاً، بل حُبَّاً صافياً كالماءِ الزلال، وتعبيراً صادقاً عن قمة الولاءِ والوفاء، فالوطن الذي يسقط عَلَمُه لا قيمة لأبنائه، وما زالت الشعوب العظيمة تحمي علم بلادها، وتُرخِصُ الأرواح في سبيله، ولذلك، يضع الإنسان يده على قلبه، حين يرى علم وطنِه يرتفع، ونشيد بلاده تصدح به الأصوات، في إشارةٍ إلى أن القلب هو موطن العَلَم ومكانه المكين.
ولن يظلّ العلم عالياً خفّاقاً، إلّا إذا اجتمعت الأيدي كلُّها على رَفْعِه، تعبيراً عن وحدتها الوطنية وتلاحمها المصيري في سبيل الوطن ورفعة شأنه، وهو ما عَبَّرت عنه خاتمة القصيدة، أروع تعبير، في قول الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: وكلِّنا في وقتْ واحدْ نرفَعَهْ.