بصمات راسخة للإرث الأفريقي

شهدت الهند عبر تاريخها حكامًا أتوا إليها من مختلف مناطق شرق القارة الأفريقية –من إثيوبيا وإريتريا والصومال وغيرها– لكي يعيشوا وتزدهر الحياة بهم في شبه القارة الهندية. ولقد كانوا معروفين هناك على نطاق واسع باسم “سيدهي” أو “حبشي” (وهي مجموعة عرقية تقطن في الهند وينحدرون من أصل الشعوب ألبانتو في منطقة البحيرات العظمى الأفريقية)، ولقد اتخذوا من الهند موطنًا لهم وبلغوا فيها مناصب رفيعة.

ولقد خلّف الحكام الأفارقة –بصفتهم حكامًا، ومخططين للمدن، ومهندسين معماريين– إرثًا تاريخيًا ومعماريًا كبيرًا ومثيرًا للاحترام يقف اليوم شاهدًا على إبداعهم، وتصاميمهم، ومهاراتهم، وذكائهم في ميادين الفكر، والثقافة، والسياسة، والحرب. ولا تزال الحصون، والقلاع، والمساجد، والأضرحة، وغير ذلك من الصروح والمباني الأخرى المهيبة التي شيدوها –منذ أكثر من خمسة قرون من الزمان– تزخرف وجه الحضارة والمناظر الطبيعية في الهند.

ومن البدايات المتواضعة للغاية، نجح المهاجرون الأفارقة في تأسيس الولايات ذات الحكم الأميري، وشعارات النبالة، والجيوش القوية، والمصانع والمسابك، والأختام الملكية. ولقد صمدوا في الدفاع عنها بكل قوة واستماتة ضد الأعداء والخصوم الأقوياء حتى حلول القرن العشرين عندما انخرطوا رفقة 600 ولاية أميرية أخرى تحت لواء الدولة الهندية الموحدة اعتبارًا من عام 1947.

وكان رئيس الوزراء الهندي “إخلاص خان” من بين أشهر الحكام ذوي الأصول الأفريقية في البلاد، ولقد كانت أصوله تنحدر من عبيد أفارقة وافدين من إثيوبيا، والذين اعتبارًا من ثمانينات القرن الخامس فصاعدًا كانوا مسؤولين عن الإدارة، والقيادة العامة للجيش، ووزارة الخزانة في عهد السلطان الراحل إبراهيم عادل شاه الثاني ونجله وخليفته محمد عادل شاه، سلطان بيجابور. ولقد كان رئيس الوزراء “إخلاص خان” من أبرز الحكام الحقيقيين في إمارة بيجابور، ولقد ظهرت صورته في العديد من اللوحات الفنية التي ترجع إلى تلك الحقبة الزمنية القديمة. من الشخصيات المهمة الأخرى كان سيدي مسعود، وهو وزير إمارة بيجابور من أصول أفريقية. ولقد كان في خدمة ثلاثة من السلاطين حتى عام 1683. وكان يعيش في مدينة “أدوني” وكان من الحكام المستقلين في الأساس.

ومع ذلك، كان من أبرز وأكبر الحكام الإثيوبيين شهرةً ومعرفةً هو “مالك أمبار”، والذي شغل منصب رئيس الوزراء والوصيّ على عرش الإمارة في “ديكان”. ثم جاء نواب إمارات “جانجيرا”، و”ساشين”، وكذلك بعض الملكات الأفريقيات ذوات الشهرة الكبيرة من أمثال “ميهر ليخا بيغوم صاحبة”، و”ياسمين محل”، و”بامبا موللر”.

لا تزال قصة حياة “مالك أمبار” –ذلك العبد الحبشي الذي تحول إلى محارب صنديد– من أعظم قصص الشخصيات الحبشية التي صنعت التاريخ في شبه القارة الهندية. ولقد وُلد في أربعينات القرن الخامس عشر من أصول قبيلة “أورومو” الحبشية في إثيوبيا، ووقع في الأسر وجرى استعباده عندما كان لا يزال صبيًا صغيرًا يحمل اسم “تشابو”.

وانتقل “مالك أمبار” –كعبد حبشي– بين مختلف السادة الذين كانوا سببًا في اعتناقه الدين الإسلامي، ثم أطلقوا عليه الاسم الذي كان سببًا في شهرته التي بلغت الآفاق وقتذاك. وفي خاتمة المطاف وصل إلى الهند كي يُباع في سوق العبيد هناك. ولقد وافت المنية سيده الذي اشتراه ومن ثم تمكن من استعادة حريته بعد سنوات طويلة. ولم يرتقِ “مالك أمبار” السلم الاجتماعي في الهند فحسب، وإنما تمكن من تكوين جيش كبير وقوي من الأحباش في الهند، فضلًا عن الممتلكات مترامية الأطراف، وذلك إلى جانب تلك المدينة التي أسّسها وتحمل اليوم اسم مدينة “أورانج آباد”. وفي أوج قوته وذروة مجده، كان يُقال إن إقليم ديكان الغربي كان يُطلق عليه ببساطة في زمن من الأزمنة أنه “أرض أمبار”.

وجاء المؤلف الهندي مانو بيلاي، على ذكر “مالك أمبار” في كتابه المعنون “سلاطين التمرد”، وقال إنه كان من أبرز الرجال المتميزين، ولم يكن لديه من منافس أو حتى مكافئ في أمور الحرب، والسياسة، والحكم السليم، وإدارة البلاد في زمانه.

وأردف المؤلف مانو بيلاي، قائلًا في كتابه: “كان بين عامي 1610 و1611 أنْ أقدم مالك أمبار على تأسيس عاصمته الجديدة، التي حملت اسم خيركي (وهي محل مدينة أورانج آباد من أعمال ولاية ماهاراشترا الهندية الغربية اليوم)، والتي تحولت مع مرور الوقت إلى مركز من المراكز الحضرية الرئيسية في البلاد. وقد كانت موئلًا ومعاشًا للسيد مالك أمبار، فضلًا عن الكثير من كبار رجال سلالة (ماراثا) من النبلاء، ومن القادة العسكريين الذين شيّدوا القصور، والمنازل الفسيحة وعمدوا إلى تطوير البلديات المحلية، ومحطات المياه، وقناة مائية تحت سطح الأرض التي كانت من بين أبرز ابتكارات ذلك العصر القديم، والتي كانت سببًا أيضًا في ازدهار وتقدم الكثير من المناطق في إقليم ديكان الغربي الجاف من الموارد المائية”.

وكانت تلك القناة المغطاة من أكبر الشهادات الحية العظيمة على عبقريته الفذة، وكان قد أصدر الأمر بإنشائها ضمن نظام عام لإمدادات المياه في عام 1610، ولا تزال قناة “مالك أمبار” مستمرة في العمل بعد مرور 408 أعوام على حفرها. وكان من الحكام المتصفين بالتسامح الديني، ومن ثم لم تُسجل في عهده حالة أو واقعة واحدة من التمييز الديني ضد الرعايا من الهندوس.

ويحمل “مالك أمبار” أيضًا الفخار التاريخي بوصفه من أبرز القادة العسكريين في سلالة “ماراثا” من الحكام والنبلاء، كما أنه يعد من عدة نواحٍ الأب الروحي للمحارب الهندي الشهير “شيفاغي بهوصله”. وفي المدونة التاريخية “سيفابهاراتا” –وهي الملحمة الكبيرة التي تمتدح سجايا وخصال الملك الهندي المحارب “شيفاغي بهوصله”، جرى تخصيص جانب استثنائي من المديح غير المعتاد في أبيات تلك الملحمة إلى شخص “مالك أمبار”، حيث وصفته الملحمة التاريخية بأنه كان يملك شجاعة مثل شمس النهار القوية الساطعة.

ووافت “مالك أمبار” منيته في عام 1626 عن عمر يناهز 80 عامًا، واستقر جثمانه في بلدة “خولد آباد” من أعمال مدينة “أورانج آباد” في غرب الهند.

استمر الملوك الأفارقة في حكم إمارة “جانجيرا” –ومحلها في ولاية غوجارات الهندية الغربية اليوم– لأكثر من أربعة قرون كاملة. وكان السيد الأفريقي “محمد عبد الكريم خان” هو المؤسس الأول لإمارة “ساشين” –في ولاية غوجارات الحالية– في عام 1791، وظل حاكمًا على غالبية سكانها من طائفة الهندوس. وكانت لدى إمارات “جانجيرا”، و”ساشين” فرقة من الفرسان، وفرقة عسكرية تابعة للدولة تضم بين صفوفها الأفارقة، وشعارات النبالة، والعملة المحلية، والأوراق الرسمية المختومة.

وعلى الرغم من أن الوافدين الأفارقة قد اتخذوا زوجات من نساء البلاد في الهند وصاروا أكثر التزامًا بالتقاليد والأعراف الهندية مع كل جيل عن الذي سبقه، فإنهم –وخلال تلك المُجريات– قد جرى استيعابهم ضمن مختلف شرائح السكان المحليين. ومن بين النخب ذات الأصول الأفريقية، كان نواب الحكم على إمارات “جانجيرا”، و”ساشين” هم الذين واصلوا المحافظة على سماتهم الأفريقية الخالصة بصورة جيدة حتى بلوغ القرن العشرين من خلال الالتزام بالزواج بين الأقارب بصورة هادئة وواعية.

وكانت آخر حركة من حركات الهجرة الأفريقية إلى شبه القارة الهندية قد وقعت في القرن التاسع عشر. حيث أقدم الوزير الأول في “حيدر آباد” على الاستعانة بالجنود الأفارقة في جيشه واستمر في شَغل منصبه الرفيع حتى تاريخ انضمام الولاية الأميرية السابقة تحت لواء الجمهورية الهندية الجديدة.

ولا يزال أحفادهم يعيشون حتى اليوم في شارع “بيكر” في مدينة “حيدر آباد” عاصمة ولاية “تيلانغانا” الهندية الجنوبية، ولا يزالون محتفظين بتقاليدهم وأعرافهم القديمة حتى الآن.

وفي العصر الحاضر، ينسجم المجتمع ذو الأصول الأفريقية بصورة جيدة تمامًا مع سكان البلاد المحليين، كما تعيش مجموعات صغيرة من “عرقية سيدهي” في أجزاء متناثرة من ولاية غوجارات وولاية كارناتاكا، ومدينة حيدر آباد، وولاية ماهاراشترا، وولاية غوا. واليوم، هناك ما لا يقل عن 50 ألف مواطن هندي من أصول أفريقية يعيشون في البلاد. وهم يتواصلون باللغات الهندية المحلية، ويرتدون الملابس والأزياء الهندية التقليدية، ويتبعون الممارسات الغذائية المحلية. وتعد الطريقة الوحيدة للتعرف عليهم من بين جموع السكان الآخرين هي من خلال المظاهر الجسدية المميزة لهم عن غيرهم. وهناك حفنة من بقايا ماضيهم الأفريقي العريق متمثلةً في القليل من الفولكلور الموسيقي وبعض الرقصات القبلية الأفريقية المعروفة.

 قد يهمك أيضا:

غاليري "لمسات" في "القاهرة" يُنظم معرضًا افتراضيًا بمشاركة 60 فنانًا

"غاليري مغبغب" يطلق "مخيمات اللاجئين في لبنان" في مواجهة "كورونا"